في اليوم العالمي للبنات … لا تكوني أقلّ ممّا كُنتِ عليه بين أحضان والِدَيْك !
نشرت
قبل سنة واحدة
في
كم من فتاة في ربوعنا المُذكّرة كانت أميرةً مُزهرة ومُضيئةً بين أحضان أبويها، وفجأة ينفرد بها لفيف عائلي طارئ لا مكانة حقيقية لزوجها فيه، فتُوجّه نحوها أجهزة التنصّت وكاميرات المراقبة ويُذيقونها أبشع أطباق التسلّط والتسفّل وتسلّل حماتها إلى حميميّتها بعد أن ظنّ الجميع أنها ستشهد ولادة جديدة وستملّ من حياة القطن والترف ولذائذ الدنيا ؟!
وكم من بنتٍ في بلادي (وبلاد العرب عموما) تُشقّ السّماء أمامها ليهِبَها والدها أمتع آيات الودّ والمحبّة (لقد لاحظتم بالتأكيد أنه في اليوم العالمي للبنات، فاز الآباء بنصيب الأسود في الاحتفاء ببناتهنّ مقارنة بالأمّهات على مواقع التواصل !!!) …وتخيط لها أمّها أجمل فساتين البهجة وأحلى أوشحة البهاء وعزّة النفس، وتُباع من أجل دراستها وتميّزها الدّيار والمعْمَار، ثم تُقاد – طوعا أحيانا ونزولا عند ارتدادات الضغط الاجتماعي أحيانا أخرى- نحو كائن ضالع في الإبهار الكاذب والمغناطيس السّالب، فيُحوّلها سريعا إلى كائن طيّع مُطالب بإجادة الطّهي وسرعة الإنجاب (ولا يجب أن يبالغ رحمها في إنجاب البنات رجاءً) وأداء تحية الواجب الزوجي في كل أوقات النهار ؟!
من أجل هكذا مُفارقات ومؤدّيات لا تُشبه البدايات، حُقّ الاحتفاء بــ”البنات” على وجه الدقّة، ليس باعتبارهنّ جزءًا من الطفولة ولا بوصفهنّ نساء المستقبل ولكن لأنهنّ فئة منفردة لها خصوصيّات لا تشتركن فيها مع أية فئة أخرى من حيث هشاشتها وهوْل النّهم الحيواني المحدق بها أينما حلّت وكذلك لما أثبتته هذه الفئة من قدرات جبّارة في المجالات الدراسية والبحثية والمساهمة الفعّالة في تقدّم الشعوب ورقيّها.
وبِناءً على هذه الخصوصية بالذّات، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2011 أن يكون 11 أكتوبر من كل سنة يوما عالميّا للفتاة اعترافا بــ “حقوق الفتيات وإقرارا بشتّى العراقيل التي تعترضهنّ عبر كل بلدان العالم. والتأكيد على ضرورة رفع التحديات التي تواجهها الفتيات بالذات والعمل على تمكينهنّ واحترام حقوقهنّ الإنسانية…”
…وبأرقام الفتيات في مدارج الجامعات ومخابر البحث تُقاس حيويّة المجتمعات !
يُعتبر وضع الفتيات في تونس مُطمْئنا عموما بالنظر إلى مكانتها الرمزيّة المُكتسبة وتقلّص هامش الإكراه في تزويج الفتاة إلى أدنى مستوياته، وخاصة اكتساحها لمقاعد العلم والترقّي المهني والاجتماعي بالشكل الذي جعلها تحقّق انتصارا اعتباريّا أولا ونفوذا ماديّا مؤسّسا ثانيا. وإن الأرقام التي نوردها فيما يلي تؤكّد هذه الميزة التونسية :
– 65 بالمائة من الطلبة في الجامعات التونسية هنّ من الفتيات.
– 70 بالمائة هي نسبة البنات من مجموع الحائزين على شهائد جامعية وذلك خلال الفترة الممتدة من 2017 إلى 2022.
– نسبة البنات في صفوف المنتمين إلى مدارس الدكتوراه أكبر من نسبة الذكور في جميع مجالات البحث.
– 64 بالمائة من الباحثين في مجالات الهندسة والتكنولوجيا هن من البنات سنة 2021.
– 50 بالمائة، هي نسبة النساء الجامعيات في مراكز التدريس والبحث في الجامعة، لكن هذه التمثيلية تتضاءل مع الصعود في سلّم أصناف المدرّسين والباحثين (50 بالمائة في رتبة أستاذ مساعد لكن 10 بالمائة فقط في أعلى الرّتب أي رتبة أستاذ تعليم عال) .
ومن الأسباب التي تفسّر حسب تقديري الخاص هذا التدحرج في تمثيلية النساء عندما يتعلق الأمر بالمراتب العليا والوظائف السامية في مختلف المجالات مثل الطب والتدريس الجامعي والإدارة والمسؤوليّة المدنيّة والسياسيّة والديبلوماسيّة… هو التوزيع الجندري غير المنصف للمسؤوليات العائلية وتحمّل الأم للنصيب الأكبر في تربية الأطفال ونجاحهم وتميّزهم. ويحلو لي في هذا السياق أن أغامر بالفكرة التالية : عامل حضور الأم لا يقلّ أهمية مطلقا عن عامل مستوى تكوين المدرّسين أو عامل نجاعة البرامج والمقاربات … في نجاح أطفالنا وشبابنا.
إذا كانت الأمّ أمينة سرّ ابنتها، فوالدها سرّ أمانها وأمنها ودليل خيارها… ولذلك نقول لهنّ :
أنّ لا حبّ في الدنيا يمكن أن يُضاهي حبّا اندماجيا صافيا تغذّيه نحوك أمّ ترى فيكِ نفسها الأخرى، وحبّا مقدّسا يكنّه لك أبٌ يسارع دوما إلى السّطو على قلوب أبنائك لتصبحوا كلّكم أبناءً له إلى درجة تمّحي معها القدرة على التفريق بين الإبن وابن البنت.
وأنه إذا كان على البنت أن تختار بين مواصلة دراستها وبين الزواج المُعدّ له في وشوشات “محرّكات البحث الآدميّة”، فلا مجال للتردّد وترك مساحة لتقدير الوضع والموازنة بين ما يمكن أن تربحه وما يمكن أن تخسره، وعليهنّ الاتجاه رأسا نحو رِحاب المعرفة وتعبيد طريق المستقبل الذي لا يلتفّ على صاحبه أبدا، خاصة إذا اكتسب سالكه قدرة على مفاوضة تعرّجاته وتحييد مفاجآته… عكس ما يفعل رهط من الرجال الفاهمين للقِوامة على كونها استعبادا وامتهانا وإذلالا إلى يوم القيامة.
وأن الذّكر (الخطيب أو زوج المستقبل) الذي يحرص ويصرّ ويستميت في التبكير بالزواج قبل إنهاء الدراسة هو بالضرورة أنانيّ أو خاضع لسلطة عائلية ما، أو متخلّف ممّن يؤمنون بأساطير الطراوة والنضارة الرائجة في أسواق اللحوم والدّواب.
وأن عمل الفتاة واستقلاليتها المادية والاقتصادية هما حصنها الحصين وضمانها المتين في ميزان العلاقة الثنائية مع قرينها، لأن التجارب الاجتماعية تُثبت كل يوم – خاصة في الأوساط الهشّة – أنه بقدر ما تكون الزوجة مُلحقة ماديّا بالغير، بقدر ما يضعف قرارها ويتقلّص هامش التصرّف لديها ويسهل تضييق الخناق عليها وعلى حريتها وكرامتها.
وأن لا شيء إطلاقا في علاقة سويّة متوازنة (لا وجود فيها لمنطق ميزان القوى) يبرّر خوفها الدائم وتوتّرها المستمر إزاء احتمال تعكّر مزاج قرينها أو تذرّعه بتحلّق “الدجاج الأسود” من حوله، لأن الأصل في الزواج هو في نظري “تجمّع روحيْن متحابّتين تحت سقف متأسّس على الأمان والطمأنينة لا على التوجّس والذّعر الدائمين”.
وأنه إذا أرادت بيئتها العائلية أو الاجتماعية أو بعض القنوات المتخصّصة في الإفتاء والتبهيم والتنجيم إسكاتها فقالوا لها ما يقول الشيوخ “يجب أن تستحضر الزوجة دائماً أن الواجب عليها هو طاعة زوجها، وأنها بعنادها له تأثم وتُغضب ربّها، وأنها محمولة على تلبية رغباته وإيجاب طلباته بما يُرضي الله والتزيّن والتطيّب له دون غيره…”، بإمكانها الردّ عليهم بأن التكافؤ الصادق والحقيقي يجعل نفس الحقوق ونفس الواجبات تنسحب على الطرفين وفي الاتجاهين دون حسابات مسبقة وأحكام مزعومة صاغتها الغرف الذكوريّة ليستأثر الرجال بالسيادة والعِمادة.
فيا رياحين قلوب الاباء والأمهات تابعن تميّزكنّ الذي بدأته جدّاتكنّ منذ عقود، وانعمن بحريّتكنّ الناضجة والمتّزنة (في بيئة تنتظركنّ في المنحنيات حتى تُعيدكنّ إلى مربّع الحريم) وأسهمن باقتدار في تحريك مفاعلات هذا البلد المعطّلة.