جور نار

في اليوم العــــــالمي للغة العربية … هل العربية لغتنا؟ أم العــامية؟ أم الاثنتــــان معًا ؟

نشرت

في

يحتفي العالم يوم 18 ديسمبر من كل سنة باللغة العربية بعد إقرارها لغة رسمية داخل المنتظم الأممي يتكلّمها 400 مليون من سكان المعمورة.

<strong>منصف الخميري<strong>

ماذا حول الفُصحى والعاميّة ؟

أعتقد شخصيا أن عربيّتنا الفصحى التي بها نعتزّ ولإيقاعها نهتزّ، ليست – اليوم بالذات- في أفضل حالاتها لا في علاقة بإشعاعها العالمي أو على مستوى يُسر استعمالها بالنسبة إلى متكلّميها الأصليين أو في ما يتصل باستعمالها كأداة للبحث العلمي في شتى المجالات أو كذلك في علاقتها باللغات الانسانية الأخرى.

فلو نُجري مقارنة بسيطة بين متوسّط تملّك اللغة الفرنسية بالنسبة إلى شاب فرنسي أو اللغة الانكليزية بالنسبة إلى شاب بريطاني أو أمريكي ومتوسّط تملّك اللغة العربية لدى نظيره التونسي أو اللبناني أو الأردني، لاكتشفنا أن الشبان العرب بصورة عامة لا يُجيدون لغتهم الأم بالشكل اللازم (وهنا يكفي مقارنة الأعداد التي يتحصّل عليها أبناؤنا في العربية خلال امتحان الباكالوريا مع الأعداد التي يتحصّلون عليها في اللغتين الفرنسية والانكليزية حيث يتقارب المستوى في سلبيّته… بل إن أعداد التلاميذ المتفوّقين دراسيا عادة ما تكون أفضل في اللغات الأجنبية مقارنة باللغة العربية…) وهو أمر لا يستقيم بالنسبة إلى تلميذ تربّى وترعرع وتعلّم وحفظ وكتب في بيئة عربية خالصة.

سبب ذلك يعود في رأيي إلى كون الهوّة بين العامية التي نتكلّمها في منازلنا وعلى شواطئنا وفي محاكمنا وفي مدارسنا (خارح درس العربية) وبين الفُصحى سحيقة جدا لكونها مُنزاحة وحُبلى بالمترادفات حتى أن للعسل ثمانين اسماً في العربية، و للأسد مئات، أما السيف فنصيبه من اللغة العربية أكثر من 300 اسم حسب ما تجمع عليه عديد المراجع !

وتتسع الهوة بين اللسانين إلى درجة أن الفصحى تكاد تتحوّل إلى لغة أجنبية بالنسبة إلى تلاميذنا لأن المجهود المستوجب للقيام بعملية التحوّل من سجلّ إلى آخر مُكلف وعسير جدا، بالإضافة إلى الضعف الفادح في الإقبال على المطالعة باللغة العربية (وهنا لا يتحمل التلميذ مسؤولية هذا الفراغ المُعيق لوحده بل المحيط العائلي بأسره الذي لا يتعدّى رصيده من الثقافة المكتوبة في البيت، بعض فواتير الكهرباء والماء غير الصالح للشراب وكتاب أمّك صنّافة ومصحف شريف لا نتمثّل ثراء اللغة فيه بل تُختزل قيمته في مكانته الرمزية والتصوّر الشعبي بأنه طارد للحسد وجالب للرزق. )

المشكل أيضا أن المسافة بين العاميّة في سائر البلدان العربية والفُصحى تتّسع وتضيق هنا وهناك إلى درجة أنه بإمكانك أن تستمع أو تقرأ نصّا بالعامية ولا تفهم منه شيئا على الإطلاق وكأنك أمام نص ياباني أو سواحيلي إفريقي. فالحديث عن لغة عربية جامعة وموحّدة لملايين البشر حول العالم يحتاج إلى كثير من التنسيب والتواضع.

تأمّلوا معي على سبيل المثال هذه التدوينة لصديقي الموريتاني “ولد سيداتي” الذي تربطه علاقات جيدة مع عديد المناضلين الوطنيين في فلسطين والعراق والمغرب وتونس… بما يفترض أنه لم يبق حبيسا للسياق الموريتاني الصّرف على مستوى لغة تعامله مع الناس :

يقول حرفيا على صفحته (متوجّها إذن إلى العالم) متحدّثا على ما يبدو عن منطقة جغرافية بموريتانيا تُدعى أتوجيلة :

هذه (أتوجيلة) ارض لأهل بومالك غرب نواملين، وارعاو لا حد كراعو فم، ذيك أرض قرية طارت شور المريخ ونحن لاهي نتلبوها، هامنا نقضي العارظ فيها العام الجاي الى رادها الله.” !!!

أو كذلك انطباع هذا المواطن الإيراني المتكلّم للعربية الفصحى بشكل جيّد بحكم اشتغاله في حقل الترجمة من العربية إلى الفارسية، زار بلادنا ذات مرة فكتب بعد عودته : “سافرت إلی تونس ذات شتاء ورأيت اللغة التي يتکلمون بها کأنها قد نزلت من کرة أخری، ومن الطريف أنه حدثت لي مشکلة في مطار قرطاج، فلم أستطع أن أفسّر للموظف ما كان يسألني عنه، واستنجدت بصديقي الذي يُتقن الفرنسية لفضّ الإشكال ! “.

خلاصة الحديث أنه لا بدّ لعاميّتنا أن تُغادر مناطق رفاهها وتقطع مع بداوتها وترتقي إلى مراتب تُجاور الفُصحى وتتصالح معها، ولكن على العربية الفصحى من ناحية أخرى أن تخرج من نخبويّتها وتنزل من عليائها ليفهمها عامّة الناس ويتداولوها دون “تقعّر” أو تمسّك بسجلّ مهجور ومتهالك. ولنا في هذا السياق مثال اللغة الفرنسية التي استطاعت استيعاب آلاف الكلمات العربية ومصطلحات الشباب المهاجر في الأحياء الباريسية المُهمّشة ونهلت كثيرا من عاميّة الجهات والأقاليم من دون وجل أو إحساس بتهديد كيانها.

 موضوع احتفالية هذا العام هو “مساهمة اللغة العربية في الحضارة والثقافة الإنسانية”، فهل نحن مُساهمون فعلا ؟

لا أحد يُنكر مساهمة العرب تاريخيا في تطور الحضارة الانسانية وإنجازاتهم الكبيرة سواء في مجال الرياضيات أو الطب أو الفلسفة أو الفلك … ولكن يبدو أن الأمر مختلف اليوم، حيث تمّ تسجيل قطيعة ساطعة مع هذا الإرث الكبير  وفُسح المجال أمام الدّعاة والمُدّعين والأدعياء ممّن لا علاقة لهم لا بالعلوم ولا بالمخابر ولا بتحديات العصر الحديث بيئيا وصناعيا ورقميا وطبيا وتكنولوجيا.

مُحرّكات البحث شاهدة على ما أقول. جرّبوا بأنفسكم إدراج هذه الكلمات المفاتيح وستكتشفون النتائج :

عندما نكتب “أسباب الفقر” بالعربية على محرّك غوغل، فإن أول نتيجة تظهر في السطر الأول
بالعربية هي كالتالي :

“الأسباب التي تمنع الرزق وتُضيقه عليك هي : تواكل العبد وإتيان المعاصي والمحرّمات والكفر بالنعم وازدراء ما رزق الله -تعالى- من عطايا والبخل وعدم حبّ الإنفاق والعطاء في سبيل الله تعالى والتهاون في بعض الأعمال التي تُوصف بأنّها شركٌ؛ كالحلف بغير الله، أو الذبح لغير الله، أو الاعتقاد بوجود نفعٍ أو ضرٍّ من الأموات”، وما شابه ذلك…

وبالفرنسية causes de la pauvreté يعطيك محرك البحث هذه النتيجة :

“أسباب الفقر عديدة ومتنوعة لكن أهم الأسباب تكمن العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مثل البطالة الجزئية وعقود العمل المؤقت وغياب دور الحضانة في محيط العمل أو المحيط العائلي أو كذلك أسعارها الباهظة…

المثال الثاني : أسباب عدم نزول المطر

بالعربية، لديك النتيجة التالية في السطر الأول (على محرك غوغل دائما)

“من أسباب توقف المطر أو نقصانها الذنوب والمعاصي والامتناع عن إخراج الزكاة …”

وبالفرنسية :

“في الصحاري والمناطق الجافة، ليس هناك رطوبة كبيرة في الهواء وبالتالي لا وجود لغلاف مائي هام، لذلك سرعان ما تمّحي حرارة النهار عندما يأتي المساء وتذهب برودة الليل عندما تعود الشمس…”

فأي مساهمة في تطور الثقافة الإنسانية نتحدث عنها ؟ وأي مستقبل للغة حيّة مثل العربية لا يتم استخدامها في مجالات حاسمة هي اليوم بصدد تشكيل ملامح عالم الغد أي التكنولوجيا والعلم والمعرفة الرقمية ؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version