في اليوم العالمي للمسرح … أحبّوا المسرح ، إنّه طريق للحب والانعتاق
نشرت
قبل سنتين
في
على هامش اليوم العالمي للمسرح (27 مارس) المُحتفى به مؤخرا، أريد التذكير بأنه تم إقرار هذا اليوم من قِبل الهيئة الدولية للمسرح وتم الاحتفال به لأول مرّة في 27 مارس 1962، ولعلّني لا أفوّت هذه الفرصة لأقول لكل المسرحيين ومرتاديه ومُحبّيه وكُتّابه ومُخرجيه في العالم بأسره كل عام وانتم بخير، كل عام وأنتم تُمسرحون حياتنا وتُعيدون تركيبها وتدبيجها لتكون أقل قتامة في عيون المشاهدين.
تجربتي المتواضعة في التدريس تدفعني للتأكيد أنه كان بودّي ان يكون للمسرح في تونس اهمية أكبر في تربية الناشئة حتى تتمكن من التعبير عن شغفها والإفصاح عن مشاعرها والدّفع بافكارها وإطلاق العِنان لهواجسها وأحلامها في أعمال فنيّة مسرحيّة، والحال أننا من اقدم الحضارات التي شيّدت المسارح خاصة في العهد الروماني في القرن الثاني بعد الميلاد (مثل مسرح الجم ومسرح قرطاج ومسرح دقّة ومسرح بلاريجيا…). لِمَ لا تفكر وزارتنا الموقرة، في ادماج مادة المسرح في برامجنا التربوية كمادة اساسية قارة في كل المراحل الدراسية : الابتدائية والإعدادية والثانوية وتعميمها على كامل المؤسسات نظرا لاقتصارها حاليا على بعض الاعداديات وارتباط تدريسها بمدى توفّر الإطار البشري ؟
فالفعل المسرحي مُساعد على فهم العالم في تفاصيله السّائلة وغير المرئية ويشكّل ركنا أساسيا من أركان الابداع التي يُفجّر فيها التلميذ طاقاته الكامنة واختلاجاته الدّفينة وتجعله مبتكرا وخلاقا، حتى يتدرّب (رغما عنه أحيانا لأن تجربة التمثيل تجعل الشخص يدخل في حالة نفسية ثانية تُنسيه ذاته مؤقتا) على التصالح مع ذاته ومع جسده وقبوله الآخر والاختلاف والتنوع، كما تنمو لديه ملَكات حاسمة جديدة مثل الفُضول والحوار والتبادل وكسر حواجز خروج الصوت والتحدّث إلى الآخر بنبرة معيّنة يُمليها الموقف ومواجهة جمهور يحسب حركاته وسكناته ويُسجّل نجاحاته وإخفاقاته.
يقول الأديب ميلان كونديرا :”يبدو ان في الدماغ منطقة خاصة تماما يمكن تسميتها بالذاكرة الشعرية وهي التي تسجل كل الاشياء التي سحرتنا والتي جعلتنا ننفعل امامها وكل ما يعطي لحياتنا جمالها”. فلو اشتغلنا على هذه المنطقة الدماغيّة المنسيّة والمكبوتة لدى شبابنا، لاستطعنا توليد إنسان جميل محبّ لذاته ومُدرك لمواطن البهجة والفرح في حياته حتى يدركها ويُمسك بتلابيبها في مواجهة الضغوط المختلفة والأثقال المتعددة. وعليه، فإنه من المهمّ جدا إتاحة الفرصة المدرسية خاصة أمام الطفل حتى يُقبل على ممارسة التعبير الجسماني تبديدا لمخاوفه تجاه “ألغاز” جسده النّامي والمتحوّل، وذلك نظرا إلى أن بعض الاطفال لديهم بعض التفاصيل الخلقية التي يعتبرونها (أو يعتبرها المحيط) نوعا من التشوّهات او بعض مخلّفات الحوادث التي تجعلهم يعيشون تحت وطأة ضغوطات نفسية دائمة او شعور سلبي ما أمام أقرانهم، حتى أنّني اتذكر حادثة عشتها مع تلميذة ادرّسها كانت دائمة الاخلال بواجباتها، غير مكترثة بالاعداد التي تتحصل عليها بشكل كان يجعلني أتساءل دائما عمّا يجعلها تزدري الدّرس بتلك الطريقة، إلى أن أخبرني والدها انها تعرضت لحادث خلّف لها بعض الحروق وان كانت غير بارزة، الا انها تشعر بحرج كبير جعل سلوكها عدوانيا تجاه نفسها اولا وتجاه الاخرين وغير عابئة بدراستها ومستقبلها… وكأن فرحة الحياة غادرتها دفعة واحدة كنتيجة مباشرة لهذا “الوصْم” البسيط التي لم تتوفّق في التعايش معه.
هنا تكمن في اعتقادي أهميته هذه “الخشبة المسرحية الصغيرة التي تُلعب فوقها كل عظمة العالم” كما يقول المخرج المؤثر في المسرح الفرنسي في منتصف القرن الماضي أنطوان فيتاز، ذلك انه يمتص ذلك الجيَشان المُتأجّج في نفوس المراهقين والتي غالبا ما تتحول الى اعمال عنف في المدرسة من تهشيم لممتلكات المؤسسة وعنف لفظي بكتابة عبارات مُسيئة على الجدران، بل و اصبحنا نسمع الكلام البذيء امام القاعات، وهو بالنسبة لهذه الفئة شكل من اشكال التعبير وإثبات الذات.
في المقابل، بإمكان المسرح ان يُحوّل هذا الغضب الذي يعتمل داخل الطفل الى طاقة ايجابية في فضاء مشترك تتوفر فيه المساواة والحرية اثراءً لمهاراته وتعزيزا لثقته بنفسه. ألم يحن الوقت بعدُ لدولتنا التي من المفترض أنها قطعت مع مراهقتها ودخلت مرحلة النضج والاستقرار ان تراهن على شبابها بحمايتهم من أخطار الشارع كعصابات المخدرات التي تتلقفهم امام المدارس وان تؤطرهم بوسائل بسيطة ونافعة وغير مكلفة. نحن لا نطالب في الوقت الحالي بمدارس وفّرت لناشئتها كل أسباب التعلم الجيد والفضاءات الترفيهية والتعبيرية المختلفة، بل نطالب فحسب بتحسين ظروف الدراسة وحفظ كرامة المتعلمين وصوْن حقّهم في التدرّب على كل ما يُيسّر اندماجهم في الحياة وفي المجتمع وانتداب اساتذة مسرح او مكوّنين مختصين في المسرح في حصص قارة لكل التلاميذ وليس في شكل نواد، خاصة في المرحلة الابتدائية والاعدادية لكونها مرحلة مفصلية حاسمة في تشكّل عود الشباب وشخصيته. لقد حان الوقت تماما لإتاحة انتعاش العقول وانبجاسها وتخصيب الحاضر وتأمين المستقبل و العمل أيضا على خلق شباب مبدع، توّاق إلى الحرية، محبّ، طموح، متألق …قادر على الحوار والاقناع حتى يستطيع التعبير عن ميولاته بكل مسؤولية وحرية وبدون خوف أو عقد فكرية أو كوابح ايديولوجية وحتى ينجح في اختياراته الدراسية والجامعية.
واختم بقول جميل جدا للممثل الامريكي ” وليام دافو”، يقول “يتعلق المسرح العظيم بتحدي طريقة تفكيرنا و تشجيعنا على تخيل عالم نطمح اليه”.