جور نار

في معنى العزلة

نشرت

في

سواء صدّقنا ما يقع في مدارات السلطة من شدّ و جذب، أو احتسبنا ذلك في باب الألاعيب الزرقونية … أفتح قوسين لأقول هي صدفة فقط رغم أن صاحب شركة سبر الآراء ليس بعيدا عن قصدنا … إلا أن المغزى الرئيسي هو ما كان يفعله بعض تجار الصدفة في نهج زرقون سابقا، من تقاسم دور البائع و الراغبين في الشراء مع جمع من صبيانهم المشرّدين … فتراه شاهرا بضاعته أمام هذا الجمع، و تراهم يعرضون أسعارا تتزايد من واحد لواحد … إلى أن يأتي مغفل من أشباهنا و يرتمي على الطُعم مثل السمكة …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

قلت حتى لو اعتبرنا ما يحصل بين سعيّد و “خصومه” الحاليين ضربا من ألعاب الخدعة، فإن هؤلاء الخصوم تخونهم بعض مصطلحات و تفضح رائحتهم و لو من مسافة بعيدة … و هي رائحة العشر سنوات الأكره و الأخطر في تاريخنا الحديث دون مبالغة … عشنا فترات صعبة و فترات أصعب و أخرى أقل ضنكا، و لكننا في كل تلك المراحل كنا مفتوحي الأعين و راسمين خطّا رفيعا، بيننا و بين من يحكم … مع فرنسا و أيضا مع نظام بورقيبة و من جاء بعده … حتى المؤيدون بحماس مفرط في العشريات الماضية، كانوا يهمسون لك في لحظة صفاء أنها الخبزة المُرّة و لا خيار … و رحم الله أستاذنا القديم “…” (و قد كان رئيس شعبة في السبعينات) حين يملي درسه علينا، و كلما وصل إلى عبارة “حزبنا العتيد” يبتسم ابتسامة خفيفة على جنب … و عندما تلحّ عليه عيوننا الصغيرة، كان يغمز لنا غمزة الشاطرين …

الجموع كانت عارفة و مغلوبة و انتهازية و قل ما شئت، و لكن القلب من الداخل كان يقول ما لم تقله الأفواه … و كان معظمها مخلصا في حبّ البلاد و إن غش في حبه لأهل الحكم … و كان أغلبها ينافق في التصفيق للنشيد الرسمي وقتها (ألا خلّدي) المكتوب لأجل شخص بعينه، و لكننا كنا نلتهب وطنية و صدقا مع النشيد الشعبي أيامها، حماة الحمى … خاصة في الأوساط العمّالية و الطلاّبية قبل أن يتسلل إليها أغراب من عالم آخر و وطن آخر …

بداية من 2011، انكشفت وجوه كثيرة، و انكشف خاصة أن في ثنايانا أسراب من باعة البلاد و أهل الولاء لكل شيء عداها … و حتى لا تنحصر الصفة في تيار معيّن هو عنوانها الأكبر، فقد طالت أيضا طبقة سياسية و اقتصادية و ثقافية تسيدّت المشهد و أمسكت الزمام و لعلّ ذلك من حسن حظ شعبنا … و من سوء حظهم هم … لا غرابة، و ها أن عتاة هذه الفصائل يصرخون على الملأ بأن ذلك أشنع الأخطاء، سمعنا ذلك من الشيخ مورو، و النيفر، و من المرحوم الغضباني، و قلة أخرى قلبها منحاز لملّة الظلام … و من ينبّهك إلى عثراتك أكثر من والديك أو أبنائك البررة؟

نرجع إلى بداية موضوعنا … من أهمّ الميزات التي يشترك فيها هؤلاء في هذه الأيام، قاموس مفردات أشهرها “الانقلاب” و “ضد الانقلاب” … جاءت لتلتحق بمصطلحات ألفناها  مثل “الصندوق” و “الشرعية” و “القضاء” و “الإقصاء” و “التوافق” و اسطوانة “الثورة” التي لم يعد يدوّرها تقريبا سواهم و سوى من على خطاهم … يعني خرجنا من جوقة التحوّل المبارك إلى أوركسترا الثورة المباركة، و كل ما هو مبارك … شكلا أو جوهرا …

و لكن أعلى الأصوات يتحدث اليوم عن “عزلة”، و “دولية” طبعا … تماما و كأن مقصودهم لا تونس بل جنوب إفريقيا زمن الميز العنصري … أو قل أفغانستان في العهد الطالباني الأوّل … و هذا و إن ينمّ عن استقواء و استعداء و ارتباط فطري لا وطني، فإن فيه مغالطة غير هيّنة … صحيح أن بعض رعاتهم في الخارج يريدون عودتهم لإتمام أضحوكة ديمقراطية صوريّة لا علاقة لها بأصول الديمقراطية … و ربما في هذا الخارج جهات لا تعرف حقيقة ما جرى عندنا في السنوات العشر، و ربما هي تعرف و لكنها لا تريد أن يقتربوا منها في الصورة … و تجد كل الحرج أمام رأيها العام لو اعترفت بحقيقتهم و هي المتورّطة معهم … و ربما أيضا لتقاطعات و مصالح إقليمية و دولية بعيدة عن أرضنا قليلا أو كثيرا …

تونس اليوم في عزلة دولية؟ … على أساس أنها في العشرية السابقة كانت محاطة بالأحباب و الأصحاب و السمعة الشريفة؟ … فعلا … فقد كنا محبوبين و مصحوبين في دولة العراق و الشام (داعش) … و كنّا مطلوبين بحرارة في الرقة و ريف حلب و ريف دمشق … و كنا مرغوبين في معسكرات التدريب الليبية … و في كهوف” تورا بورا” … و في غارات “بوكو حرام” أثناء كرّها و فرّها … و كان مرحّبا بمواطنينا لدى كلّ جمارك العالم و مطاراته، و خاصة مطار أربيل و محتشدات الحدود التركية السورية … لم نكن وقتها نشكو من أية عزلة، و الدول تصنّفنا الواحدة تلو الأخرى على أننا وجهة خطرة، و معقل تبييض، و منطقة حمراء تهدد أجوارا و أشقاء و أصدقاء …

تونس في عالم ما بعد كورونا، تعيش صعوبات و مثلها كل الدول تقريبا في هذه المرحلة … فالأنانيات ارتفع منسوبها و كل الدول تبحث عن طوق نجاة لنفسها قبل الآخرين … و ما يحصل ببلادنا من ضيق مالي و اقتصادي أسبابه كثيرة، منها التخبّط الحالي لدولة بقيت مترددة في حسم أكثر من ملفّ و أوّلها ملفّهم الملغوم … و منها ما يلمّح إليه الرئيس من بقاء أيديهم و أيدي لوبياتهم الطويلة في كل مجال، بما في ذلك الأجهزة الرقابية التي من المفروض أنها تحاسبهم … أجهزة من دونها لا يمكن إخراج ملف و مساءلة جناة و ضمان حقيقة و اقتصاص حق …

و أعتقد أنه حين تنبري هذه الأجهزة مسلحة بوجدان ينبض وطنية، و رافعة يدا أولى تنتصر للبلاد و علَمها و قوافل شهدائها و خاصة من ضحاياهم، و يدا ثانية تبني و تثمر و تعمّر   … وقتها سوف يقف العالم كله لنا إجلالا، و يخطّ على دفتر الشرف و التاريخ اسم و لقب و مهنة و تاريخ ولادة و عنوان مواطنة شابة على الدوام … هي تونس يا عزيز العين …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version