:رواية “جراح عزيزة ” هي الرواية الثانية للكاتب والسينارست والمخرج محمدالزمزاري بعد روايته الأولى “الأوميرتا”. جاءت في 119 ص من الحجم المتوسط وصدرت عن الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع بالمنستير سنة 2022.
<strong>عمر السعيدي<strong>
هذه الرواية ترتبط في موضوعها بحدث الثورة وسنواتها العشر العجاف . وتصور الوجه السلبي لهذه العشرية على حياة الناس وخاصة الطبقة الفقيرة والمهمشة .أو هي رواية ترصد بعين لاقطة وناقدة عملية إخفاق الثورة في تحقيق المأمول منها إثر تأزم الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية والبيئية في المجتمع . وضعف مؤسسات الدولة وتمرد المواطن البسيط بل قل كل أفراد المجتمع على السلطة. وعيش حالات الفوضى في جميع نواحي الحياة
.( لم يشهد الحيّ البائس تغييرا يذكر على مرّ السنين العجاف التي تلت ثورة “البرويطة ” غير المزيد من انخرام الأمن وانتشار المخدرات والفقر المدقع والبطالة المتفشية… حتى أنك ترى من حين لآخر كتابات معبرة على الحيطان ” حي الفقر ، حومة الشقف ، بيع جميع أنواع المخدرات عند Al Capone .ممنوع على الزناطير بيع الخمر خلسة داخل الحومة . الزلاقة لاقا تعلم تعوم . وغير ذلك من التعبيرات الحانقة أو الإفرازات المتعددة ) ص 287.
وقد عاينت الرواية مرحلتيْن هامتيْن خلال هذه الفترة . وهما أولا حدث الثورة متمثلا في طرد الحاكم وبناء شعارات و أفكار جديدة أو بديلة ونشأة أحزاب عديدة مختلفة متضاربة وعملها على بناء نظام حكم جديد يُِؤمن بالحريات ويدعو إلى التداول على السلطة . ويسعى لتطوير الاقتصاد أي مرحلة الحلم الأولى . تلتها مرحلة ثانية كانت مرحلة إخفاق هذا المشروع وانعكاسه سلبيا على حياة المهمّشين والأمنيين والجيش والمعارضة . هي رواية تسجيلية نقدية أقرب إلى كتابة صفحات أو يوميات عن حياة الناس وخاصة الفقراء والمعطلين عن العمل منهم .
فضاء الأحداث :
تدور الأحداث أساسا في أحزمة المدن أو الأحياء المهمشة التي بُنيت على عجل دون تهيئة عمرانية بعد الاستقلال . حيّ ينفتح على البحر كما يقول الكاتب ويتصل بهضبة’ (لم يغب عن هذا الحي القابع بين الهضبة الموصلة إلى العاصمة والسبخة الممتدة أميالا . أي صنف من المآسي لعل أكثرها وقعا واشمئزازا ما عهده سكان حي نترة من أكاذيب السياسويين والوصوليين الناكثين لعهودهم التي يقطعونها كل مرة تجاه هذا الحيّ) ص 27 . سكنها نازحون وموظفون ومتقاعدون وحرفيون وعمال بسطاء .وتكدس فيها الفقراء والعاطلون عن العمل وبائعو المخدرات والباحثون عن اللذة والنتارة والمهربون والممارسون للعنف والمنقطعون عن التعليم والباحثون عن شغل .
ولعل في تركيز الكاتب على هذه الفئات نجد إشارة خفية إلى تلك الفئات التي فرحت بالثورة وحلمت بالعيش الكريم وتحقيق العمل والسكن والكرامة و تحسن الأوضاع الاقتصادية . وهي المتضررة عموما من الأنظمة السابقة والحالمة بحياة أفضل في ظل حدوث الثورة . لكنها تجد نفسها خارجة من الحلم ومنغرسة في وحْل سلبيات هذه الثورة .
النماذج البشرية في هذه الرواية :
وقع اختيار مجموعة هامة من الشخصيات الشعبية التي تنتمي إلى القاع ثم حصرها أساسا في فضاء جغرافي واحد أي حي شعبي بُني على عجل في أطراف المدينة الكبيرة دون تهيئة عمرانية سليمة ، لرصد حياة هذه الفئة من الناس ومعاينة معاناتهم اليومية وتصوير يوميات من هذه الحياة في صراعهم مع الحاجة والفقر والمرض والعنف والرذيلة . يتنقلون في أنهج وممرات آسنة ضيقة تُصدر روائح كريهة ، وسط مياه الصرف. أو يتكدسون في الأسواق الشعبية والساحات العامّة .أو يتزاحمون على محلات بيع الخضار والفريب .أو يجمعون النفايات البلاستيكية ويتحدثون عن غلاء المعيشة وعجز الناس عن تلبية حاجياتهم اليومية من مأكل ومشرب ودواء خاصة .
هذه النماذج هي الشخصيات التالية:
عزيزة وهي طالبة انقطعت عن التعليم العالي في سنتها الرابعة حقوق لعجزها عن دفع مصاريف التنقل والدراسة .حلمت بالحرية والوظيفة ولكنها خابت تمتلك جسما جميلا ورشاقة جعلاها محبوبة من محسن أحد زملائها الذي مكنته من نفسها في دار للضيافة لما خرجت في رحلة مع أصدقائها وزملائها الطلبة، مما جعلها تحن إلى الحبّ وربط علاقات مع الشباب الذي يملك المال والسيارة . فتجد نفسها وقد تجملت تصادق فاروق شابا متزوجا صار يغدق عليها المال مقابل الاستمتاع بجسدها عشيقة حتى حملت منه . فتركها وهاجر إلى بوركينا فاسو •
نترة أخو عزيزة : شاب لم يتجاوز مستواه التعليم الإعدادي .انقطع عن الدراسة ولم يجد شغلا . فكون شِلَّة لنتر الهواتف والحواسيب والاعتداء على المحلات والاتجار في المخدرات وتعاطي الزطلة .والاستفادة من أموال المسروقات مقابل قضاء ساعات في ملهى لشرب الخمر ومراقصة الفتيات .
باولو، أخو عزيزة: شاب مثلي عاش بإيطاليا مدة سبع سنوات قضاها في السجن و رُحِّل إلى تونس ووجد عملا بمقهى وسط العاصمة . فمثل فشل حلم الهجرة •
مسعود وزوجته مبروكة: هما والدا عزيزة وباولو ونترة . شيخ متصاب متقاعد وامرأة ناشز . يشكو الحاجة لضعف منحة التقاعد وغلاء الأدوية والمعيشة . هو دائم الشجار مع زوجته . يجد رغبة في معاكسة النساء في الشارع رغم ما يتعرض إليه من ردّ فعل عنيف .•
الشيخ حامد، إمام المسجد: كوّن جمعية لجمع الأموال قصد القيام بإصلاحات لفائدة المسجد ولكنه استفاد منها شخصيا . يمثل دور التقي والواعظ وهو يخرج من منزله .•
سيف الدين، ابن الشيخ: يبيع المخدرات في دكانه وأمام المعاهد . يتوسط في تسفير بعض الشباب إلى بؤر التوتر مقابل المال . أطرده والده الشيخ حامد من المنزل لسوء سلوكه .•
الميزوني : شيخ مترهّل حاد الطبع بذيء اللسان يهدد زوجته ببيع منزله والدخول إلى مركز إيواء المسنين بمنوبة نقمة فيها لأنها لا تهتم به .•
سالمة زوجة الميزوني : امرأة بدينة بذيئة اللسان تعمل حارزة حمام مطلعة على أخبار الناس .•
ابنها : شاب وسيم مغرم بالراب غيتارست . أمام عراقيل تكوين فرقة نجح في الالتحاق بمركز موسيقي لتطوير ثقافته الموسيقية .•
ولد منير بوقديدة : فتى ذو مال من عائلة لها جاه يقضي يومه في المراقص والملاهي وشرب الخمر ومصادقة الفتيات : يلتقيه نترة في نزل بالحمامات ويراه يعنف صديقته ريم ويفتك منها هاتفها فيهرع لنجدتها ويعنف المعتدي فينال إعجابها ويصير من ذلك اليوم صديقها . فتقربه من العائلة وتمكنه من المال والسيارة ومن شراء شقة بحي راق بل وتدفعه إلى عالم السياسة فيكوّن حزبا ويتقدّم للانتخابات .•
محسن ابن الجارة خديجة: عائد من إيطاليا ويتقرب من نترة ومكانته ويرغب في مصاهرته.
وهكذا تنشأ سلطة جديدة بعد الثورة هي سلطة المال والسياسة وبناء الجاه والمكانة بعيدا عن الثقافة التقليدية.• صراع السلطة الدينية مع السلطة الزمنية المتجاوزة للقيم :ويمثل السلطة الدينية الإمام الشيخ حامد المعروف بسيرته في هذا الحي الشعبي بين السكان بل وبين المنحرفين . فقد جوبه بالشاب نترة لما اعترض على سلوكه وشكاه إلى والده ثم السلطة الأمنية . لما قام إثر جلسة خمرية ليلية مع صديقه كرشه وبائعه الهوى خميسة باقتحام مئذنة المسجد في وقت غير وقت صلاة الفجر بثلاث ساعات وأذن للصلاة . ثم غنى لحبيبته ريم ودندن بألحان وأغان ماجنة لا تحترم ثقافة ولا دينا .مما أزعج الإمام .
وحين واجهه الشيخ واعترض على سلوكه هذا ودعاه إلى إصلاح نفسه والإقبال على الصلاة وتجنب الكفر والزندقة ما كان منه إلا أن واجهه بجملة أخطائه أو تجاوزاته .وهي كما يلي : جمع أموال لفائدة المسجد قصد شراء مكيفات والقيام بإصلاحات و أخذها لنفسه . دفع رشاو والتدخل لفائدة ابنه شارب الخمرة والمتعاطي للمخدرات ومحرض الشباب على الهجرة إلى بؤر التوتر مقابل أموال والساعي إلى تدمير عقلية الشباب المدرسي. وذلك بترويج المخدرات. وأخيرا دعوته إلى الفضيلة والنهي عن المنكر وربط علاقات جنسية مع خميسة بائعة الهوى عند غياب زوجته . مما يدل على سلبية السلطة الدينية وعدم التزامها بالقيم الدينية المثلى التي تنادي بها . وذلك بانجذابها إلى الرذيلة والفساد من أجل الدفاع عن مصالح خاصة .
كما نلاحظ أيضا تحلل المجتمع وانفلات الناس من الالتزام بكل القيم الجميلة .والتطاول على المقدس في إطار نوع من التحرر التام من كل القيود والقيم التي لازمت سنوات الثورة مما يهدد باضمحلال منظومة القيم والقوانين التي تؤطر المجتمع .
البطولة والكتابة المشهدية لهذه الرواية علاقة بكتابة السيناريو . بل هي سيناريو جيد . تستطيع أن تقرأه قراءة مشهدية أو قراءة صورة : إذ فيه تركيز على الوصف والمظهر الخارجي والفضاءات والأماكن وهيئة الأجسام وحركتها والأصوات والألوان والخطابات .وتظهر هذه المشهدية في كامل النص حتى أن الكاتب وهو يكتب كأنه يبني ديكورا .(غرفة معتمة تقبع آخر بهو لا يتعدى الأمتار المربعة .تؤوي العجوزين الشيخ مسعود وزوجته مبروكة بينما تنام سوداء اللون من الندى والرطوبة راسمة صورة مشابهة لخارطة إفريقيا ) ص 8ولعل ذلك من أجل تبيان الحالة والصورة وتصوير الواقع الخارجي البئيس لمآلات الثورة . وكأنه يستعين بالكتابة على الرسم والتصوير والتسجيل حتى تبقى مشاهد المجتمع والأمكنة عالقة بالذهن واضحة للعيان شاهدة على الأيام .غياب البطولة :
رغم أن عزيزة وردت في أول الرواية وآخرها إلأّ أن جميع شخصيات هذه الرواية تمثل البطولة الجماعية أو صورا مختلفة لأبطال لا تتصارع أو تتفاضل ولكنها تتشارك في تقديم صورة عن التهميش والبؤس في المكان والزمان والشخصيات .
خاتمة :
لهذه الرواية مرجعية واقعية بل قل تاريخية أيضا وقد مرّت عشر سنوات على الثورة . وقد شكلت صورا ومشاهد ولوحات ومناظر من مسرحية ” جراح الثورة “. واكتفت الرواية بالمعاينة والمشاهدة والوصف وكان على الكاتب ان يتجاوز ما هو موجود ومدرك في اللحظة والفضاء إلى ما قد يحدث مستقبلا . ذلك أن كل كتابة جادة ذكية تبحث أيضا في أفق انتظار المتلقي في مستقبل الظاهرة أو الفكرة المعالجة .
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.
أعصاب المرأة قوية في أمور عديدة، لكن الموقف الذي يجمد الدم في عروق معظم الرجال ولا يجسرون على تصوره هو عملية الشراء …
لا أعتقد أن عنترة بن شداد الذي صارع الأسُود في الوديان المقفرة بيده العارية، كان يجسر على القيام بهذا النشاط الأنثوي المعتاد: الدخول إلى محل لمشاهدة كل شيء واستعراض كل شيء والسؤال عن كل شيء، بينما هو لا ينوي الشراء وجيبه خاو تماماً. رأيت الكثيرات يفعلن هذا العمل البطولي، بينما أعترف لك بأنني اشتريت أشياء كثيرة جدًا في حياتي لمجرد أنني خجلت من البائع.
يحكي أنيس منصور في كتاب (200 يوم حول العالم) أنه كان في سنغافورة يستمتع بمشاهدة التنسيق البديع في محل للخضراوات والفاكهة، هنا اقتنصه بائع .. ووجد أنيس نفسه يغادر المحل وهو يحمل ثياباً داخلية باعها له الرجل دون أن يطلبها منه، ولا يعرف سبب وجودها في محل للفاكهة!
كلما تقدمت السيدة في السن ازدادت ثبات أعصاب ولم تعد تشعر بالحرج على الإطلاق. عرفت سيدة من هذا الطراز تذهب لشراء شيء .. تعرف أن ثمنه مائة جنيه … أقول لها وأنا أهرع خارجاً من باب المتجر:
“ـ “انتهى الأمر .. هيا بنا ..فمهما خفضت السعر سيظل عالياً ..
لكنها تقف في ثبات وتنظر إليّ منذرة كي أصمت .. هذه معركتها وقد احتشد الأدرينالين في دمها حتى ليوشك على أن يسيل من أنفها.
تقول للبائع في ثبات:
ـ “عشرون جنيهاً!”
أُوشِكُ على الفرار لكنها تطبق على معصمي بقوة: اِنتظر ولا تكن رعديداً…
البائع يضحك في سخرية ويقسم بقبر أمه أن ثمن هذا الشيء 85 جنيهاً… مكسبه خمسة جنيهات لا أكثر … لكنها تبدو مصممة، وفي النهاية تقترح ثلاثين جنيهاً. ..
يدور الفصال المرهق الذي يستمر ساعات عدة… البائع يقسم بقبر أمه ألف مرة… صحيح أن السيدة المسنة الجالسة هناك هي أمه، لكنك تقبل هذا باعتباره من آليات التسويق..
في النهاية تظفر السيدة التي أرافقها بسعر لا يوصف… أربعون جنيهاً … لكنها غير راضية .. تشعر بحسرة لأن هذا يعني أنه كان بوسعها أن تصل لسعر أقل ..
أربعون جنيهاً … هذا نصر مؤزر ..
تخرج من حقيبتها عشرين جنيهاً وتؤكد:
ـ “ليس معي سوى هذه .. يمكنك أن تعوضها في المرة القادمة ..”
لكن البائع يكون قد بلغ درجة البله المغولي .. لا يعرف ما يقول ولا ما يشعر به. يريد الخلاص منها بأي ثمن لذا يوافق .. هنا تناوله المال وتطلب منه:
ـ “سأقترض منك خمسة جنيهات لأنك لم تترك لي نقوداً أعود بها لداري”
أمد يدي لجيبي لكنها تباغتني بنظرة مرعبة .. لا تفسد كل شيء علي .. يا لك من غبي ..
يناولها البائع خمسة جنيهات وهو زائغ العينين لا يعرف ما يدور من حوله، فلو طلبت منه مفاتيح بيته أو رقم حسابه في المصرف لأعطاها بكل سرور .. الحياة بالنسبة له تنقسم إلى ما قبل لقاء هذه السيدة وهو مرحلة سعيدة، وما بعد لقائها وهو جحيم ..
في النهاية نغادر المتجر حاملين الشيء الذي كان سعره مائة جنيه فصار خمسة عشر .. تقول لي في حسرة:
ـ”ربما لو بذلت مجهوداً أكبر لصار بعشرة جنيهات”
ـ “لو بذلت مجهوداً أكبر لأعطانا البائع مالاً أو أهدانا المتجر كله ليتخلص منا”
ـ “لا أحب أن يخدعني أحد”
ولأنها لا تحب أن يخدعها أحد فهي تحطم أعصاب الباعة وعقولهم في كل مكان. كما قلت لك تملك النساء أعصاباً أقوى من الرجال بكثير، ولا يمكن أن نحلم أن نكون مثلهن تحت أية ظروف..