جلـ ... منار
قراءة في رواية “جراح عزيزة” لمحمد الزمزاري
نشرت
قبل سنتينفي
:رواية “جراح عزيزة ” هي الرواية الثانية للكاتب والسينارست والمخرج محمدالزمزاري بعد روايته الأولى “الأوميرتا”. جاءت في 119 ص من الحجم المتوسط وصدرت عن الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع بالمنستير سنة 2022.
هذه الرواية ترتبط في موضوعها بحدث الثورة وسنواتها العشر العجاف . وتصور الوجه السلبي لهذه العشرية على حياة الناس وخاصة الطبقة الفقيرة والمهمشة .أو هي رواية ترصد بعين لاقطة وناقدة عملية إخفاق الثورة في تحقيق المأمول منها إثر تأزم الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية والبيئية في المجتمع . وضعف مؤسسات الدولة وتمرد المواطن البسيط بل قل كل أفراد المجتمع على السلطة. وعيش حالات الفوضى في جميع نواحي الحياة
.( لم يشهد الحيّ البائس تغييرا يذكر على مرّ السنين العجاف التي تلت ثورة “البرويطة ” غير المزيد من انخرام الأمن وانتشار المخدرات والفقر المدقع والبطالة المتفشية… حتى أنك ترى من حين لآخر كتابات معبرة على الحيطان ” حي الفقر ، حومة الشقف ، بيع جميع أنواع المخدرات عند Al Capone .ممنوع على الزناطير بيع الخمر خلسة داخل الحومة . الزلاقة لاقا تعلم تعوم . وغير ذلك من التعبيرات الحانقة أو الإفرازات المتعددة ) ص 287.
وقد عاينت الرواية مرحلتيْن هامتيْن خلال هذه الفترة . وهما أولا حدث الثورة متمثلا في طرد الحاكم وبناء شعارات و أفكار جديدة أو بديلة ونشأة أحزاب عديدة مختلفة متضاربة وعملها على بناء نظام حكم جديد يُِؤمن بالحريات ويدعو إلى التداول على السلطة . ويسعى لتطوير الاقتصاد أي مرحلة الحلم الأولى . تلتها مرحلة ثانية كانت مرحلة إخفاق هذا المشروع وانعكاسه سلبيا على حياة المهمّشين والأمنيين والجيش والمعارضة . هي رواية تسجيلية نقدية أقرب إلى كتابة صفحات أو يوميات عن حياة الناس وخاصة الفقراء والمعطلين عن العمل منهم .
فضاء الأحداث :
تدور الأحداث أساسا في أحزمة المدن أو الأحياء المهمشة التي بُنيت على عجل دون تهيئة عمرانية بعد الاستقلال . حيّ ينفتح على البحر كما يقول الكاتب ويتصل بهضبة’ (لم يغب عن هذا الحي القابع بين الهضبة الموصلة إلى العاصمة والسبخة الممتدة أميالا . أي صنف من المآسي لعل أكثرها وقعا واشمئزازا ما عهده سكان حي نترة من أكاذيب السياسويين والوصوليين الناكثين لعهودهم التي يقطعونها كل مرة تجاه هذا الحيّ) ص 27 . سكنها نازحون وموظفون ومتقاعدون وحرفيون وعمال بسطاء .وتكدس فيها الفقراء والعاطلون عن العمل وبائعو المخدرات والباحثون عن اللذة والنتارة والمهربون والممارسون للعنف والمنقطعون عن التعليم والباحثون عن شغل .
ولعل في تركيز الكاتب على هذه الفئات نجد إشارة خفية إلى تلك الفئات التي فرحت بالثورة وحلمت بالعيش الكريم وتحقيق العمل والسكن والكرامة و تحسن الأوضاع الاقتصادية . وهي المتضررة عموما من الأنظمة السابقة والحالمة بحياة أفضل في ظل حدوث الثورة . لكنها تجد نفسها خارجة من الحلم ومنغرسة في وحْل سلبيات هذه الثورة .
النماذج البشرية في هذه الرواية :
وقع اختيار مجموعة هامة من الشخصيات الشعبية التي تنتمي إلى القاع ثم حصرها أساسا في فضاء جغرافي واحد أي حي شعبي بُني على عجل في أطراف المدينة الكبيرة دون تهيئة عمرانية سليمة ، لرصد حياة هذه الفئة من الناس ومعاينة معاناتهم اليومية وتصوير يوميات من هذه الحياة في صراعهم مع الحاجة والفقر والمرض والعنف والرذيلة . يتنقلون في أنهج وممرات آسنة ضيقة تُصدر روائح كريهة ، وسط مياه الصرف. أو يتكدسون في الأسواق الشعبية والساحات العامّة .أو يتزاحمون على محلات بيع الخضار والفريب .أو يجمعون النفايات البلاستيكية ويتحدثون عن غلاء المعيشة وعجز الناس عن تلبية حاجياتهم اليومية من مأكل ومشرب ودواء خاصة .
هذه النماذج هي الشخصيات التالية:
عزيزة وهي طالبة انقطعت عن التعليم العالي في سنتها الرابعة حقوق لعجزها عن دفع مصاريف التنقل والدراسة .حلمت بالحرية والوظيفة ولكنها خابت تمتلك جسما جميلا ورشاقة جعلاها محبوبة من محسن أحد زملائها الذي مكنته من نفسها في دار للضيافة لما خرجت في رحلة مع أصدقائها وزملائها الطلبة، مما جعلها تحن إلى الحبّ وربط علاقات مع الشباب الذي يملك المال والسيارة . فتجد نفسها وقد تجملت تصادق فاروق شابا متزوجا صار يغدق عليها المال مقابل الاستمتاع بجسدها عشيقة حتى حملت منه . فتركها وهاجر إلى بوركينا فاسو •
نترة أخو عزيزة : شاب لم يتجاوز مستواه التعليم الإعدادي .انقطع عن الدراسة ولم يجد شغلا . فكون شِلَّة لنتر الهواتف والحواسيب والاعتداء على المحلات والاتجار في المخدرات وتعاطي الزطلة .والاستفادة من أموال المسروقات مقابل قضاء ساعات في ملهى لشرب الخمر ومراقصة الفتيات .
باولو، أخو عزيزة: شاب مثلي عاش بإيطاليا مدة سبع سنوات قضاها في السجن و رُحِّل إلى تونس ووجد عملا بمقهى وسط العاصمة . فمثل فشل حلم الهجرة •
مسعود وزوجته مبروكة: هما والدا عزيزة وباولو ونترة . شيخ متصاب متقاعد وامرأة ناشز . يشكو الحاجة لضعف منحة التقاعد وغلاء الأدوية والمعيشة . هو دائم الشجار مع زوجته . يجد رغبة في معاكسة النساء في الشارع رغم ما يتعرض إليه من ردّ فعل عنيف .•
الشيخ حامد، إمام المسجد: كوّن جمعية لجمع الأموال قصد القيام بإصلاحات لفائدة المسجد ولكنه استفاد منها شخصيا . يمثل دور التقي والواعظ وهو يخرج من منزله .•
سيف الدين، ابن الشيخ: يبيع المخدرات في دكانه وأمام المعاهد . يتوسط في تسفير بعض الشباب إلى بؤر التوتر مقابل المال . أطرده والده الشيخ حامد من المنزل لسوء سلوكه .•
الميزوني : شيخ مترهّل حاد الطبع بذيء اللسان يهدد زوجته ببيع منزله والدخول إلى مركز إيواء المسنين بمنوبة نقمة فيها لأنها لا تهتم به .•
سالمة زوجة الميزوني : امرأة بدينة بذيئة اللسان تعمل حارزة حمام مطلعة على أخبار الناس .•
ابنها : شاب وسيم مغرم بالراب غيتارست . أمام عراقيل تكوين فرقة نجح في الالتحاق بمركز موسيقي لتطوير ثقافته الموسيقية .•
عمار صدوقة : بين فحام : وجامع بلاستيك .•
المنجي كرشة : صديق نترة يشاركه السرقة ويتكفل ببيع المسروق ويقاسمه الأموال .•
ولد منير بوقديدة : فتى ذو مال من عائلة لها جاه يقضي يومه في المراقص والملاهي وشرب الخمر ومصادقة الفتيات : يلتقيه نترة في نزل بالحمامات ويراه يعنف صديقته ريم ويفتك منها هاتفها فيهرع لنجدتها ويعنف المعتدي فينال إعجابها ويصير من ذلك اليوم صديقها . فتقربه من العائلة وتمكنه من المال والسيارة ومن شراء شقة بحي راق بل وتدفعه إلى عالم السياسة فيكوّن حزبا ويتقدّم للانتخابات .•
محسن ابن الجارة خديجة: عائد من إيطاليا ويتقرب من نترة ومكانته ويرغب في مصاهرته.
وهكذا تنشأ سلطة جديدة بعد الثورة هي سلطة المال والسياسة وبناء الجاه والمكانة بعيدا عن الثقافة التقليدية.• صراع السلطة الدينية مع السلطة الزمنية المتجاوزة للقيم :ويمثل السلطة الدينية الإمام الشيخ حامد المعروف بسيرته في هذا الحي الشعبي بين السكان بل وبين المنحرفين . فقد جوبه بالشاب نترة لما اعترض على سلوكه وشكاه إلى والده ثم السلطة الأمنية . لما قام إثر جلسة خمرية ليلية مع صديقه كرشه وبائعه الهوى خميسة باقتحام مئذنة المسجد في وقت غير وقت صلاة الفجر بثلاث ساعات وأذن للصلاة . ثم غنى لحبيبته ريم ودندن بألحان وأغان ماجنة لا تحترم ثقافة ولا دينا .مما أزعج الإمام .
وحين واجهه الشيخ واعترض على سلوكه هذا ودعاه إلى إصلاح نفسه والإقبال على الصلاة وتجنب الكفر والزندقة ما كان منه إلا أن واجهه بجملة أخطائه أو تجاوزاته .وهي كما يلي : جمع أموال لفائدة المسجد قصد شراء مكيفات والقيام بإصلاحات و أخذها لنفسه . دفع رشاو والتدخل لفائدة ابنه شارب الخمرة والمتعاطي للمخدرات ومحرض الشباب على الهجرة إلى بؤر التوتر مقابل أموال والساعي إلى تدمير عقلية الشباب المدرسي. وذلك بترويج المخدرات. وأخيرا دعوته إلى الفضيلة والنهي عن المنكر وربط علاقات جنسية مع خميسة بائعة الهوى عند غياب زوجته . مما يدل على سلبية السلطة الدينية وعدم التزامها بالقيم الدينية المثلى التي تنادي بها . وذلك بانجذابها إلى الرذيلة والفساد من أجل الدفاع عن مصالح خاصة .
كما نلاحظ أيضا تحلل المجتمع وانفلات الناس من الالتزام بكل القيم الجميلة .والتطاول على المقدس في إطار نوع من التحرر التام من كل القيود والقيم التي لازمت سنوات الثورة مما يهدد باضمحلال منظومة القيم والقوانين التي تؤطر المجتمع .
البطولة والكتابة المشهدية لهذه الرواية علاقة بكتابة السيناريو . بل هي سيناريو جيد . تستطيع أن تقرأه قراءة مشهدية أو قراءة صورة : إذ فيه تركيز على الوصف والمظهر الخارجي والفضاءات والأماكن وهيئة الأجسام وحركتها والأصوات والألوان والخطابات .وتظهر هذه المشهدية في كامل النص حتى أن الكاتب وهو يكتب كأنه يبني ديكورا .(غرفة معتمة تقبع آخر بهو لا يتعدى الأمتار المربعة .تؤوي العجوزين الشيخ مسعود وزوجته مبروكة بينما تنام سوداء اللون من الندى والرطوبة راسمة صورة مشابهة لخارطة إفريقيا ) ص 8ولعل ذلك من أجل تبيان الحالة والصورة وتصوير الواقع الخارجي البئيس لمآلات الثورة . وكأنه يستعين بالكتابة على الرسم والتصوير والتسجيل حتى تبقى مشاهد المجتمع والأمكنة عالقة بالذهن واضحة للعيان شاهدة على الأيام .غياب البطولة :
رغم أن عزيزة وردت في أول الرواية وآخرها إلأّ أن جميع شخصيات هذه الرواية تمثل البطولة الجماعية أو صورا مختلفة لأبطال لا تتصارع أو تتفاضل ولكنها تتشارك في تقديم صورة عن التهميش والبؤس في المكان والزمان والشخصيات .
خاتمة :
لهذه الرواية مرجعية واقعية بل قل تاريخية أيضا وقد مرّت عشر سنوات على الثورة . وقد شكلت صورا ومشاهد ولوحات ومناظر من مسرحية ” جراح الثورة “. واكتفت الرواية بالمعاينة والمشاهدة والوصف وكان على الكاتب ان يتجاوز ما هو موجود ومدرك في اللحظة والفضاء إلى ما قد يحدث مستقبلا . ذلك أن كل كتابة جادة ذكية تبحث أيضا في أفق انتظار المتلقي في مستقبل الظاهرة أو الفكرة المعالجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أديب وناقد تونسي، رئيس نادي “مؤانسات”
تصفح أيضا
جلـ ... منار
ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!
نشرت
قبل 18 ساعةفي
9 نوفمبر 2024من قبل
التحرير La Rédactionصبحي حديدي:
بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار “المشبوهين المعتادين” القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز.
“ساندرز” يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.
ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: “بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ”.
ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد “غضب” شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.
في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 بالمائة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها “جزيرة القمامة” مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.
وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA (مختصر للحروف الأولى من شعار ترامب الانتخابي باللغة الإنكليزية: جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) هي ‘أعظم حركة سياسية في التاريخ’؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.
كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
وفي قلب الـ”ماغا” كان يتنامى هوس “القومية الأمريكية” الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات “التفوّق” العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من “القِيَم” الأمريكية.
وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ”ماغا” فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من “واجب مقدّس” أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل “الإمبراطورية بالصدفة العمياء” و”الإمبريالية بالتطوّع” و”العبء الجديد للرجل الأبيض”. وفي كتاب بعنوان “السلام الأمريكي” صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فيتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: “على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا”!
والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟ للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّة سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار “نطاسيي” الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ”ماغا” في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.
وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.
ـ عن “القدس العربي” ـ
وفاء سلطان:
مضى على وجودي في أمريكا 36 سنة.
لم أدخل يوما مطعما إلا وتركت للنادلة بخشيشا يفرح قلبها وفوق تصورها.
معظم الذين يخدمون بالمطاعم في أمريكا هم طلاب جامعات ليسدوا مصروفهم، فلقد اشتغل أولادي في المطاعم أثناء جامعاتهم وأعرف كم كان البخشيش هاما بالنسبة لهم.
إلا البارحة قررت أن لا أترك لها سنتا، لكن زوجي رفض القرار وقال كعادته: حرام!
(نعم هو ألطف مني في هكذا مواقف)
أوقح نادلة رأيتها في حياتي، تخبط الصحون على الطاولة وكأنها خرجت لتوها من معركة مع زوجة أبيها.
ضبطت أعصابي بشق الأنفس
لقد اعتدنا ان نفتح حديثا مع من يخدمنا في المطاعم حتى نعرف حياته من ألفها إلى يائها،
ولكن هذه النادلة لم تترك لنا مجالا لنقول: شكرا!
نحن نذهب إلى المطعم ليس من أجل الأكل فقط، بل لتغير الجو وتحسين النفسية، وعندما تقارب الفاتورة المائة دولار وتلقى هكذا معاملة تصاب بالإحباط
حسب رأيي خدمة الزبائن في أمريكا أفضل من أي بلد في العالم زرته، ولنفس السبب لم أحب دول أوروبا!
القاعدة العامة في أمريكا تقول: يجب أن تتعامل مع الزبون كما لو كان دوما على حق!
لو كانت ابنتي محلي لقالت: ماما ارجوكِ سامحيها، لا أحد يعرف كيف كان يومها
هذا صحيح، ولكن على من يشتغل في المرافق العامة وخصوصا المطاعم أن يكون لطيفا تحت أي ظرف!
الحياة لا تعاش إلا ببعض التنازلات، وعندما يتعلق الأمر بعملك يجب ان تتمتع ببعض القدرة على إخفاء آلامك الشخصية ولا تنقل طاقتك السلبية لغيرك!
طاقة كل إنسان تشدّ أو تحجب عنه رزقه، وذلك حسب طبيعتها
كنا ندفع على الأقل 20٪ من قيمة الفاتورة، لكن بعد تراشق بالنيران وشد شعر ترك لها زوجي مبلغا، وأنا أتمتم: يا خسارة
فالسلوك الذي يُكافأ يتكرر!
وفاء سلطان:
في الثمانينات من عمرها.
أحنى الزمن ظهرها قليلا، لكن روحها مازالت تعانق السماء.
التقينا في المكان المخصص لعربات التسويق على باب أحد المحلات.
وبينما هي تسحب عربتها التقت عيوننا فصبّحت علي.
رددت التحية، وتابعت: تبدين جميلة جدا، إذ من النادر أن ألتقي بامرأة بهذه الأناقة والترتيب!
فعلا الحياة الأمريكية العملية أنستنا الكثير من أصول الأناقة والتزين.
إلى حد ما، تعجبني هذه العفوية في أمريكا،
فلقد خففت عنا نحن النساء مهمة التبرج كل صباح، وزادت ثقتنا بأنفسنا.
لكن من ناحية أخرى، من الجميل أن نحافظ على أناقتنا ومظهرنا طالما لا نبالغ
نعم لا نبالغ، فلقد أصبحت الكثيرات من النساء اليوم نسخا متكررة من لعبة باربي:
قشرة من الخارج وفراغ من الداخل
المهم، أشرقت ابتسامتها حتى أضاءت وجهها المهندس بطريقة فنية غير مبتذلة، وقالت بعد أن وضعت يدها على كتفي:
حبيبتي كل سلوك تتقنينه عادة، فمتى تعلمتِ عادة تصبح طريقة حياة
ثم تابعت:
منذ سنوات مراهقتي لا أخرج من البيت حتى أتأكد من أنني أسر الناظر إليّ، فمظهرنا الخارجي يعطي الانطباع الأول
أكدت لها أنها فلسفتي كذلك، وتمنيت لها يوما جميلا
استطلاع
صن نار
- جور نارقبل 4 ساعات
آفة المخدرات بتونس: التاريخ… التوسع… الحلول
- جلـ ... منارقبل 18 ساعة
ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!
- اجتماعياقبل يومين
الديوانة التونسية… عرض لعملياتها النوعية الأخيرة
- جور نارقبل 3 أيام
ورقات يتيم … الورقة 85
- اقتصادياقبل 3 أيام
يوم الابتكار الصناعي بين تونس وألمانيا
- اجتماعياقبل 4 أيام
إحداث مكتب بريد ببرج السدرية/الرياض
- جور نارقبل 4 أيام
رغم عيوبه السبعة… الأمريكان يعيدون دونالد ترامب، ولا يستعيدون “معجزة” 2008!
- صن نارقبل 4 أيام
انتخابات أمريكية: تزامنا مع فوز ترامب… الجمهوريون يسيطرون على الكونغرس