لمْسُ نار

قيس سعيّد … من عمر بن الخطاب إلى بورقيبة !

نشرت

في

ما فتئ قيس سعيد في كل ظهور فايسبوكي له يردّد على مسامعنا أنه على موعد مع التاريخ و أنه متمايز عن الآخرين و أن سلوكه غير سلوكهم مؤكدا على مرجعيته الدينية الإسلامية  معتمدا  الآيات القرآنية.

<strong>عبير عميش<strong>

و ما فتئ يكرّر أنه زاهد في السلطة متعفف عن الدنيا مستعد للشهادة مستحضرا سيرة النبي و الصحابة و متشبها خاصة بسيرة  الفاروق عمر بن الخطاب حين قال منذ أكثر من سنة : ” تعرفون ما قاله ذات يوم عمر بن الخطاب  ”لوعثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها لمَ لم تمهد لها الطريق يا عمر؟… أنا سأقف بين يدي ربي ولا أخاف إلا الله رب العالمين ليسألني لما سكت عن هذا الحق لأنه حق والساكت عن الحق شيطان أخرس.”  و قد يكون تعمّد استعمال المرجعية الدينية و النص القرآني و الصلاة أمام عدسات المصورين  ليتقرب من المحافظين و ينهل من الخزان الانتخابي للنهضة التي لا يعاديها إيديولوجيّا و لكنه ينافسها على زعامة التيار المحافظ و الدليل على ذلك أنه إلى اليوم و رغم مرور أكثر من شهر و نصف على إبعادها عن دواليب الحكم لم يحاسب أيا من مسؤوليها و لم يوجّه أي اتهام إلى أيّ من قياداتها _ و يبدو أنه لن يفعل _

غير أن  الجديد في الفترة الأخيرة هو أنه حوّل و جهته نحو  أنصار الزعيم بورقيبة بأن أعاد إلى الأذهان دستور 1959 و حكومة بورقيبة الأولى و كيفية تعامله مع أعضاء الحكومة آنذاك و تعيينهم في خطط كتاب دولة لا وزراء و كأنه بذلك يريد أن يضرب عصفورين بحجر واحد فيجد حلا لمأزقه الدستوري و يستميل البورقيبيين و أنصار عبير موسي تحديدا و هي التي مازالت تنافسه و حزبها على صدارة استطلاعات الرأي

و كأني بسعيد بمحاولة التماهي مع بورقيبة نسي قواعد التاريخ و سيرورة الزمن فلفترة بورقيبة خصوصيات لا تشبه خصوصيات مرحلتنا الحالية و لا يمكن تكرارها و رصيد بورقيبة عند الشعب ليس رصيد سعيد… فبورقيبة ساهم في حركة تحرير الوطن و كان قائدا رمزا بنى شعبيته بنضاله على امتداد أكثر من عشرين سنة قبل تولّي الحكم. و للرجل دهاؤه السياسي و حنكته و رؤيته الاستشرافية و قدرته الخطابية و لغته القريبة من وجدان الشعب لا المتعالية المتحذلقة المهددة المتوعّدة

و لبورقيبة صداقات مع زعماء العالم و كبار السياسيين و الدبلوماسين في حين أن رئيسنا الحاليّ قادم من عالم آخر أو من كوكب آخر حسب تعبيره. كما أن ظروف بورقيبة ليست نفس ظروفه…. وقتها تونس كانت فقيرة.. نعم.. لكن لم تكن مثقلة بالديون مثلما هي اليوم…. وقتها تونس كانت ترزح تحت نير الجهل و التخلف نعم… لكنها وجدت قائدا مجمّعا سعى إلى إرساء دعائم التعليم و التخفيف من وطأة العروشية و النزعة القبلية و عمل على استغلال علاقاته مع دول العالم لتوفير الاستثمار و الموارد و إنشاء المصانع و لم يتعنّت في علاقاته مع الدول المانحة و يصرّ على إغلاق الحدود مع جاره الجنوبي في وقت تتسابق فيه كل دول العالم إلى إبرام اتفاقيات إعادة الإعمار معه…

إنّ قيس سعيد يستند إلى بورقيبة و يعود بنا إلى دستور 1956 لا حبا في الرجل و إيمانا بمبادئه و مواقفه  فلم نعرف عنه يوما ذلك، و إنما فقط من أجل إيجاد حل للأزمة التي وضع نفسه فيها و من أجل تبرير رغبته في تغيير الدستور و تلكئه و تباطئه في تعيين حكومة يطالبه بها الداخل و الخارج خاصة بعد أن أخلف ما وعدنا به في خطاب 25 جويلية.

فبعد أن ذكر يومها أنه سيشكل حكومة جديدة في أقرب الآجال بعد أن أعفى المشيشي و حكومته.. و لكن ها أننا تجاوزنا الخمسين يوما دون حكومة جديدة و ها أنه في خطابه الأخير يلمّح إلى أنه لن يعين وزراء بل كتاب دولة أو كما يسميهم في بلاغاته مكلفين بتسيير الوزارات و سيعودون إليه بالنظر في نهاية الأمر…

هذا التلكؤ يمكن أن نرجعه إلى أحد هذه الأسباب  فقد يكون سعيّد  سعيدا بأن لا أحد يخطف منه الأضواء أو ينازعه السلطة و أنه صار الفاتق الناطق الوحيد في رقاب الشعب و مرجع النظر الوحيد بالنسبة إلى الدول الخارجية و المنظمات الداخلية .

 و يمكن أن يكون ذلك بسبب خوفه من الإخفاق و الفشل و تكرار تجربة المشيشي الذي انقلب عليه و ارتمى في أحضان النهضة و توابعها، و تجربة  بعض المستشارين و الوزراء و المسؤولين  الذين لم يقضوا معه إلا أشهر معدودة بل إن أحد المسؤولين الذين عينهم مؤخرا لم يبق في منصبه الا خمسة أيام

و قد يعود ذلك أيضا إلى رفض الكثيرين لتولي هذه المسؤلية لأن أيا منهم لا يريد أن يكون دمية في يد الرئيس و مجرد واجهة يعلق عليها فشل البلاد _ لا قدر الله _ اقتصاديا و اجتماعيا… دون أن يكون فاعلا حقيقة في تصور برنامج حكومته و خط سياساتها المستقبلية…

إن سعيّد و هو يحاول أن يخفي حيرته في خطابه الأخير عند لقائه ببعض أساتذة القانون الدستوري ممن يتماهون معه في المواقف لم يزدنا إلا تأكدا من هذه الحيرة و التخبط فهو يريد البقاء ظاهريا في كنف الدستور لكنه  يريد تنقيحه  حسب تصوراته و أفكاره التي عبر عنها في أحد حواراته الصحفية في صائفة 2019  بتركيز نظام رئاسي و تغيير قواعد الانتخاب و دور مجلس النواب… و كأن الخطيئة الأصلية في النصوص و ليست في مطبقي هذه النصوص من السلط الثلاث..

و لكن هل يحتمل وضع البلاد و خاصة الاجتماعي و الاقتصادي هذه المهاترات الدستورية و الفذلكات القانونية  و هل لدى تونس و التونسيين من الوقت و الترف ما يسمح بذلك و هل لديهم من الصبر  و السّعة و طول البال  ما يجعلهم ينتظرون أشهرا على الأقل قبل المرور إلى دستور جديد و قوانين جديدة و هيئات جديدة؟؟

هل سيبحث الناس عن قوتهم بين أبواب الدستور و فصوله  و هل سيتحسن أسطول النقل بتنقيح الدستور و هل سيجد التلميذ في الريف مدرسة مناسبة و ماء صالحا الشراب و إطارا تربويا مكتملا و هو ينبش بين صفحات الدستور  ؟؟…..

هل خرج الناس يوم 25 جويلية للمطالبة بتنقيح الدستور أم للمطالبة بتحسين أوضاعهم و إيجاد حلول للفقر و البطالة و ضعف الاستثمار و غياب التنمية

أ لسنا بطلبات كهذه نعود إلى نفس مربع 2011؟ و أخشى أننا نقوم بنفس الأخطاء لكن في أوضاع أسوأ و أخطر ،  إدارة ضعيفة و إرهاب متمركز في الجبال و وضع اقتصادي متردٍّ و  بلد على حافة الإفلاس و قروض في حاجة إلى الدفع  و تمركز  للسلط  في يد واحدة و رفض لكل استشارة أو تشاور حتى مع المساندين الذين لا يرفضون ما وقع يوم 25 جويلية و يحاولون البناء عليه لتدور عجلة البلاد، و الأخطر من ذلك حقد شعبي متنام و تطاحن و تباغض يشق كافة شرائح المجتمع و شماتة  و رفض للآخر  و عنف معنوي و لفظي في الفضاءين  الافتراضي و الواقعي لا أدري إلى أين سيصل بنا و كأننا رفضنا ما يحصل أمامنا في البرلمان و ما تنقله لنا شاشات التلفزة من  تنابز و عنف و صراع لينتقل إلى إداراتنا و أسواقنا و حتى بيوتنا..

 فهل كان عمر بن الخطاب أو بورقيبة يا من تتشبه بهما  سيسمحان بوضع كهذا و يواصلان سيرهما و هما يصمان آذانهما عن كل ناقد  ناصح و عن نداءات الحوار و التشارك و تهدئة الأجواء؟؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version