تابعنا على

جلـ ... منار

كالنهر يجب أن تكون

نشرت

في

وفاء سلطان

أشرت في فصل سابق إلى أن هناك فرقا كبيرا بين أن تكون راضيا عن نفسك، وبين أن تكون مقتنعا بواقعك…وصلت إلى مرحلة في حياتي أصبحت عندها قادرة على التمييز وبوضوح بين الرضى والقناعة، بعكس معظم الناس الذين لا يرون حدودا تفصل بين المفهومين.

وفاء سلطان
<strong>وفاء سلطان<strong>

الرضى إحساس تحدده علاقتك بنفسك (عالمك الداخلي)، بينما القناعة إحساس تحدده علاقتك بوضعك (عالمك الخارجي).تتطلب الحياة السعيدة أن تكون دوما راضيا عن نفسك، وفي الوقت نفسه لست مقتنعا بوضعك…عندما تكون راضيا عن نفسك تسعى دائما وأبدا إلى تحسين واقعك،لأنه ـ أي الرضى ـ يكسبك ثقة عالية بقدراتك وبمؤهلاتك، فتظل ملزما بأن تستخدم تلك القدرات،وبالتالي تمشي في الحياة من جيد إلى أجود. أنت تستمع برحلتك من الجيد إلى الأجود أكثر مما تستمتع بهذا الأجود عندما تناله.

لو اقتنعت يوما بوضعك كل الاقتناع لتجمدت في نقطة ما، وفقدت أهم سبب يشعرك بوجودك، ألا وهو أنك على هذه الأرض لانجاز مهمة لا تنتهي إلا برحيلك عنها، وهذه المهمة هي: أن تمشي دوما من وضع إلى وضع أفضل منه!

………….

تحضرني الآن قصة في غاية الفكاهة، لكنها تجسد الفكرة التي أردت الوصول اليها.يُحكى أن قسا امريكيا كان يعتني برعيته، ويعظهم فيما يتعلق بامور الدنيا والدين.

كان لديه في تلك الرعية فلاح يملك مزرعة كبيرة، لكنه كان كسلان وخمولا.

راح القس يعظه بقوله: لديك امكانيات كبيرة لأن تحسّن مزرعتك وتصبح مزارعا كبيرا.وكان دوما يرد عليه: (لا تقلق بخصوصي، صحيح أنني لا أتقدم إلى الأمام، ولكنني في وضع ثابت ومستقر)!

أحد الأيام مرّ القس بسيارته من جانب المزرعة، فرأى الفلاح وقد اعتلى تراكتورا للفلاحة، غاصت عجلاته الأمامية في بركة من الوحل.وكلما داس على البنزين تنط مقدمة التراكتور إلى الأعلى،ثم تغوص إلى الأعمق في بركة الوحل،فأنزل القس زجاج نافذته، وصاح: لستُ قلقا بخصوصك، صحيح أنك لا تتقدم إلى الأمام، ولكننك في وضع ثابت ومستقر!!

………….

لو آمن هذا الفلاح يوما بتميّزه وبمؤهلاته التي خصته بها الطبيعة دون غيره لظل متناغما ينساب بعفوية مع الدفق الكوني،ولاستمر في جهده وعطائه، سواء فيما يخص مزرعته أو في حقل آخر يرى نفسه فيه.

فطالما الدفق الكوني مستمر، لا يمكن أن تنعم بالاستقرار مالم تكن منسابا مع ذلك الدفق!

………….

Pablo Casalsموسيقي اسباني، ومن أبرع من عزف على الآلة الموسيقية التي تدعى “تشيللو” في تاريخ العالم…يُحكى أنه عزف للملكة فيتكوريا وهو في العشرين من عمره، وعزف للرئيس الأمريكي جان كنديوهو في السبعين.عاش حتى السادسة والتسعين، وحتى تاريخ وفاته كان يتدرب على العزف على الأقل ثلاث ساعات كل يوم.

سُئل مرة: لماذا أنت مصر على استمرار التدريب حتى هذا العمر فرد:“في كل مرّة ألاحظ بعض التحسن”!

كيف يستطيع انسان أن ينساب مع الدفق الكوني حتى هذا العمر المتأخر من الحياة، لو لم يكن راضيا عن نفسه ويعتزّ بمؤهلاته، تلك المؤهلات التي سمحت له بأن يهرب من تفاصيل الحياة وتعقيداتها، ويحلق بموسيقاه في رحاب المطلق؟؟؟

………….

هكذا نحن في الحياة…عندما نُخطئ فهمنا لمعنى “الاستقرار”، فنظن أنه الثبات عند نقطة ما، يمنعنا مفهومنا الخاطئ من السعي لتحسين وضعنا، فالجيد يقف دوما حائلا بيننا وبين الأجود!

الجيد ليس سوى محطة في رحلة طويلة، لو اقتنعنا به وتوقفنا عنده، سيصبح هذا الجيدمع الزمن نهاية الرحلة، وسنموت روحانيا قبل أن نموت جسديا.

الإنسان، كي يبقى منسابا مع الدفق الكوني، هو ملزم بأن يمشي إلى الأمام ولو بعكّاز!السعي الدؤوب يعطيك إحساسا بأنك مازلت حيّا وقادرا على العطاء!

………….

كنت منذ فترة ليست طويلة أقف في مرآب أحد المشاتل الزراعية، وأضع مشترياتي في صندوق السيارة الخلفي، عندما لمحت عجوزين أمريكيين، لا شك أنهما فوق الثمانين، يملآن صندوق سيارتهما بأشجار حمضيات (قوارص) صغيرة!

أدهشني المنظر، وتساءلت في سري: أشجار حمضيات؟؟؟ لا شك أنها تحتاج إلى خمس سنوات أو ربما أكثر لتعطي ثمرا!

لكن بعد أن فكّرت في الأمر مليا، أيقنتُ أنك تقطف ثمرا في اللحظة الأولى التي تزرع فيها بذرة أو شتلة.

تقطف ثمرا روحانيا ينعشك ويعطيك مذاقا حلوا، مذاقا يمنح الحياة بعدا آخر، بعدا تحسه ولا تستطيع أن تجسه!

………….

في طفولتي المبكرة جدا، قصت علي جدتي حكاية عمها وهو على فراش الموت:لم يكن قادرا على أن يتكلم وظل اسبوعا في غيبوبة وهو يحتضر، لكنه بين الحين والآخر كان يفتح عينيه ويحدق في إحدى زوايا الغرفة، ثم يحاول جاهدا أن يصدر بعض الأصوات دون جدوى!

في البداية لم يفهموا ما أراد أن يخبرهم، لكنهم اكتشفوا فيما بعد أنه كان يرنو إلى جرة الزيت الموجودة في الزاوية، وكانت تلك الجرة تسرّب زيتا من شقّ فيها!

أراد أن يلفت نظرهم إلى الشقّ، كي يعالجوا المشكلة قبل أن يخسروا كل الزيت!

إنها غريزة الحياة تشدنا إليها حتى الرمق الأخير، ولا عيب في أن نظل مربوطين بها حتى النهاية!

………….

كم مليون مرّة سمعتَ عبارة: “يجمع المال وكأنه لن يموت، وهو يدرك أنه لن يأخذ معه شيئا منه”

نعم، لن يأخذ معه شيئا….لكن تقتضي الحكمة أن نميّز بين طمّاع جشع متعلق بماديات الحياة، يجمع ليخزن لا ليستمتع ويُمتع، وبين شخص دؤوب يشدّه الدفق الكوني ليبقى منسابا معه حتى اللحظة الأخيرة!

………….

قرر هذان العجوزان أن يزرعا أشجار حمضيات ليس أملا في جني ثمارها، وإنما ليستمتعا بزرعها ومراقبتها تنمو وتشرئب إلى الأعلى طالما هما على قيد الحياة، وما أنبله من هدف!!

أجمل هدف في الحياة هو أن نعيشها ونحن نرنو إلى هدف….لا ضير من أن يكون ذلك الهدف جرّة الزيت، ولا ضير من أن ترنو إليها وأنت تحتضر!

مهما سعينا للكمال لن نصل إليه، ولكننا سنحسن وضعنا في كل خطوة نخطوها باتجاهه،لذلك،

ليس عبثا أن نرنو إلى الكمال، ففي استحالة الوصول إليه تكمن الحكمة التي تقتضي أن نظل سائرين كي نظل مستقرين!

………….

هناك قول فلسفي يعجبني جدا: لا تستطيع أن تسبح في نهر مرتين!

فالنهر الذي تسبح فيه للمرة الأولى لن يكون أبدا هو نفسه عندما تسبح فيه للمرة الثانية…وكالنهر يجب أن تكون!

أنت الذي انتهيت للتو من قراءة هذا الفصل، يجب أن لا تكون نفس الشخص الذي كنت قبل أن تقرأه…هذا ماكان هدفي، وآمل أنني قد حققتُ ذلك الهدف!

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

دفاعا عن ماجدة الرومي

ردّاً على مقال: حين يعلو الجهل ويخفت الإدراك الموسيقي

نشرت

في

جمال فياض

في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.

إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندما يُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.

أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!

إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.

أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.

وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.

نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.

السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…

بكل مودة الزمالة…

شكراً ، لمن كتب بالسرّ، ومن نشر في العلن

أكمل القراءة

جلـ ... منار

النصر والهزيمة في حرب الـ (12) يوما!

نشرت

في

عبد الله السنّاوي

كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.

فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.

عبد الله السنّاوي

بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.

ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.

من الذي انتصر حقا؟!

أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.

إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.

القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.

لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.

“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.

كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.

إنهما حرب واحدة.

هكذا بكل وضوح.

أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.

لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.

هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.

لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.

“إنها حثالة”!

لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.

حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.

التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.

يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.

بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.

قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.

ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.

بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.

إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.

بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.

تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.

كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.

أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.

في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.

فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.

فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.

المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.

بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.

بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.

وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.

أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.

نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.

كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.

وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.

الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.

أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.

بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.

الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.

والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.

الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.

هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.

لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.

أكمل القراءة

جلـ ... منار

السوق والنساء

نشرت

في

د. أحمد خالد توفيق

أعصاب المرأة قوية في أمور عديدة، لكن الموقف الذي يجمد الدم في عروق معظم الرجال ولا يجسرون على تصوره هو عملية الشراء …

لا أعتقد أن عنترة بن شداد الذي صارع الأسُود في الوديان المقفرة بيده العارية، كان يجسر على القيام بهذا النشاط الأنثوي المعتاد: الدخول إلى محل لمشاهدة كل شيء واستعراض كل شيء والسؤال عن كل شيء، بينما هو لا ينوي الشراء وجيبه خاو تماماً. رأيت الكثيرات يفعلن هذا العمل البطولي، بينما أعترف لك بأنني اشتريت أشياء كثيرة جدًا في حياتي لمجرد أنني خجلت من البائع.

يحكي أنيس منصور في كتاب (200 يوم حول العالم) أنه كان في سنغافورة يستمتع بمشاهدة التنسيق البديع في محل للخضراوات والفاكهة، هنا اقتنصه بائع .. ووجد أنيس نفسه يغادر المحل وهو يحمل ثياباً داخلية باعها له الرجل دون أن يطلبها منه، ولا يعرف سبب وجودها في محل للفاكهة!

كلما تقدمت السيدة في السن ازدادت ثبات أعصاب ولم تعد تشعر بالحرج على الإطلاق. عرفت سيدة من هذا الطراز تذهب لشراء شيء .. تعرف أن ثمنه مائة جنيه … أقول لها وأنا أهرع خارجاً من باب المتجر:

“ـ “انتهى الأمر .. هيا بنا ..فمهما خفضت السعر سيظل عالياً ..

لكنها تقف في ثبات وتنظر إليّ منذرة كي أصمت .. هذه معركتها وقد احتشد الأدرينالين في دمها حتى ليوشك على أن يسيل من أنفها.

تقول للبائع في ثبات:

ـ “عشرون جنيهاً!”

أُوشِكُ على الفرار لكنها تطبق على معصمي بقوة: اِنتظر ولا تكن رعديداً…

البائع يضحك في سخرية ويقسم بقبر أمه أن ثمن هذا الشيء 85 جنيهاً… مكسبه خمسة جنيهات لا أكثر … لكنها تبدو مصممة، وفي النهاية تقترح ثلاثين جنيهاً. ..

يدور الفصال المرهق الذي يستمر ساعات عدة… البائع يقسم بقبر أمه ألف مرة… صحيح أن السيدة المسنة الجالسة هناك هي أمه، لكنك تقبل هذا باعتباره من آليات التسويق..

في النهاية تظفر السيدة التي أرافقها بسعر لا يوصف… أربعون جنيهاً … لكنها غير راضية .. تشعر بحسرة لأن هذا يعني أنه كان بوسعها أن تصل لسعر أقل ..

أربعون جنيهاً … هذا نصر مؤزر ..

تخرج من حقيبتها عشرين جنيهاً وتؤكد:

ـ “ليس معي سوى هذه .. يمكنك أن تعوضها في المرة القادمة ..”

لكن البائع يكون قد بلغ درجة البله المغولي .. لا يعرف ما يقول ولا ما يشعر به. يريد الخلاص منها بأي ثمن لذا يوافق .. هنا تناوله المال وتطلب منه:

ـ “سأقترض منك خمسة جنيهات لأنك لم تترك لي نقوداً أعود بها لداري”

أمد يدي لجيبي لكنها تباغتني بنظرة مرعبة .. لا تفسد كل شيء علي .. يا لك من غبي ..

يناولها البائع خمسة جنيهات وهو زائغ العينين لا يعرف ما يدور من حوله، فلو طلبت منه مفاتيح بيته أو رقم حسابه في المصرف لأعطاها بكل سرور .. الحياة بالنسبة له تنقسم إلى ما قبل لقاء هذه السيدة وهو مرحلة سعيدة، وما بعد لقائها وهو جحيم ..

في النهاية نغادر المتجر حاملين الشيء الذي كان سعره مائة جنيه فصار خمسة عشر .. تقول لي في حسرة:

ـ”ربما لو بذلت مجهوداً أكبر لصار بعشرة جنيهات”

ـ “لو بذلت مجهوداً أكبر لأعطانا البائع مالاً أو أهدانا المتجر كله ليتخلص منا”

ـ “لا أحب أن يخدعني أحد”

ولأنها لا تحب أن يخدعها أحد فهي تحطم أعصاب الباعة وعقولهم في كل مكان. كما قلت لك تملك النساء أعصاباً أقوى من الرجال بكثير، ولا يمكن أن نحلم أن نكون مثلهن تحت أية ظروف..

أكمل القراءة

صن نار