جور نار

كان يا ما كان…التعاضدية اا (12)

نشرت

في

في ستينات التعاضد إذن، تأسست معظم شركاتنا الوطنية ومصانعنا و أسباب سيادتنا الفعلية … وعاش التونسي مرحلة نقل خبرات و خيرات تفوّق فيها بنجاح، و تأسس لدينا مركز للأبحاث النووية (نعم !) و عرفت الجامعة التونسية انطلاقة جديدة، و خرجنا من عقدة الثروات الباطنية أموجودة هي أم غير موجودة، نحو صناعات التكرير، و معها صناعات أخرى بالتزامن (وربما أسبق) مع بعض نمور شرقي آسيا التي تغزو عالم اليوم …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

و للّذين ينظرون بعين الرضى المتسرّعة لفترة السبعينات ونويرة وقانون 72، نقول إنه في زمنها تمّ الإجهاز تدريجيا على مكاسبنا الأولى واحدا إثر واحد، وتحويل قطاعنا الصناعي العام من مموّل لميزانية الدولة إلى عبء ثقيل عليها، قبل أن يتم بيعه خردة تالفة … ما علينا فتلك قصة حزن سيأتي وقتها بينما نحن الآن في سردية بناء وفترة أبواب أمل كم كانت مشرعة … فقط نذكّر بتفصيل صغير، البعض يحنّ إلى “أفضل وزير أوّل في تاريخ تونس” على أنه في السبعينات جعل الدينار في نفس قيمة الدولار الأمريكي … و الحقيقة أن ذلك كان بداية انحدار لدينارنا المسكين … لأنه في عشرية الستينات كان الدولار عند بنوكنا يساوي نصف دينار تونسي … و تحديدا 460 مليما !

معدل أعمار وزراء بورقيبة في نهاية الستينات كان في حدود الأربعين سنة، و أقل من ذلك أعمار الولاة والدبلوماسيين وكوادر الدولة … ومع ذلك لم تكن هناك كلمة أعلى من الأخرى، و لا لغة منفلتة مما نسمع هذه الأيام، و لا تهديد يومي أهوج لأوكار الاحتكار بينما الأسعار تواصل في العنان، و لا تورّط مع الأجوار إلا حين صعد نويرة (ذو الستين سنة) بعد هذه الفترة ليدخل في مشاحنات لانهائية مع القذافي …

الرهان على التعليم كان حقيقيا و كل المستويات العمرية و الذهنية كانت تجد حظها … كنت في قسم ابتدائي به تلاميذ أحجامهم و أصواتهم كفراخ العصافير، وفيه أيضا من الخلف عظاريط من مفتولي الشوارب سنّهم قد يعادل أو يزيد عن سنّ معلّمنا سي كمال … هناك من دخل إلى المدرسة في عمر خمس سنوات، و هناك أيضا من دخل و هو ابن تسع و رسب مرارا دون أن يطرده أحد، فبعد امتحان السيزيام يعمل الله … الثانوي الطويل و الثانوي القصير و التعليم المهني و الصناعي و الفلاحي و الشباب الريفي  و الخدمة العسكرية تربّي من تعبت منه وزارة التربية … أما من فاتهم الركب من زمن أبعد فلهم كتابة دولة للتربية الاجتماعية، و دروس منتظمة لرفع الأمية انتشلت عديدين رأيناهم و عرفناهم …

في المدرسة، في الشعبة، في النقابة، في اللجنة الثقافية، في الاتحاد النسائي، في سينما الشوارع، في المهرجانات و الحفلات التي كانت تتم على مدار العام، في الحملات التثقيفية التي لا تتوقف، في النوادي التي كانت تشمل كل نشاط، في البرامج الإذاعية و أبطالها المعروفين، في الأغاني الموجهة، في أناشيد المصائف، في جولات الكشافة، في خطاب المسيّرين أمام لاعبي الكرة، في زيارات المسؤولين التفقدية التي لا تنقطع، في طواف المعتمدين بالأسواق و تعاضديات الاستهلاك التي انتشرت في تلك الفترة … تونس كلها كانت قاعة تدريس و تعلّم و اطّلاع زهيد السعر ضاجّة الحركة لا تهدأ شتاء و لا صيفا …

كان التونسي متفائلا و حسن المظهر أيضا … البدلة الزرقاء تعممت على العمّال و الفلاّحين، الأدواش العمومية كانت تشتغل في غياب بيوت الاستحمام … ولياقة الهندام كانت واجبا مدنيا و حتى قانونيا و تقام له الحملات و تنظم الأغاني … نعم … المعلّمون كانوا في هيئة وزراء، و لا حديث عن المدير و كافة المديرين والمسؤولين و الموظفين و حتى الحجّاب … المعتمد كانت له صولة و جولة و هيبة، و لكنه أيضا كان يشتغل بلا كلل و يتفقد كل شيء … تجده دائما مع “عرب الهيّة” (رئيس البلدية، رئيس الشعبة، رئيس المركز، المندوب الفلاحي، مدير الأشغال العامة، طبيب الصحة …) يذرعون شوارع قريتك طولا و عرضا … و يا ويل المصباح العمومي الذي يوجد مكسورا، أو ذاك الطفل الذي عنّ  له قطف زهرة دفلى من زينة الشارع …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version