جلـ ... منار
كل الحياة عطاء … كل الحياة امتنان
نشرت
قبل 3 سنواتفي
أعزائي القراء:
يحكى أن روحانيا مختصا في علاج الأرواح المضطربة Spiritual healer
كان يعيش على قمة جبل صخري، وفي يوم من الأيام احتج مرضاه: لماذا لاتعيش عند السفح، فتوفر علينا مشقة تسلق تلك الصخور؟
رد الروحاني:من ليس جاهزا ليتسلق الصخور ليس جاهزا لأن يشفى من جروحه الروحانية!
كذلك يحتج بعض قرائي على أن بعض البوستات طويل جدا، ويصعب عليهم قراءته.وأن بدوري أقول: من ليس جاهزا ليقرأ بوستا طويلا ليس جاهزا أن يتعلم منه!
مع بداية عام جديد سأستأنف نشر فصول جديدة من كتابي “دليلك إلى حياة مقدسة”،وعليه أعيد نشر آخر فصل كنت قد نشرته، لأذكركم بأنني انتهيت عند الحديث عن معنى العطاء وأهميته، وساستمر في الموضوع نفسه لعدة فصول لاحقة!شكرا من القلب لمتابعتكم
** ** ** **
إذا سألتني: كيف سأحلّق في عالم من الخير والوفرة؟
سأردّ بلا تردد، وبكثير من الثقة: على جناحي الإمتنان والعطاء!
يجب أن تكون ممتنّا لما بين يديك من خير، حتى ولو كان باقة بصل في ثلاجتك، وكلما امتننت كلما ازددتَ خيرا وازددتَ رغبة في العطاء…
حادثتان أذكرهما كما لو أنهما حدثتا البارحة، أذكرهما كلما واجهني موقف عليّ أن أمتن من خلاله، أو أن أعطي.
في بداية حياتي الأمريكية دعتني صديقة ايرانية إلى حفلة عيد الشكر التيي تتصدّرها عادة الديك الرومي.بعد الغداء، وددت أن أجامل زوج صديقتي عندما أعلن أنه مَن طبخ الديك، وأشكره من خلال بضع كلمات:(لقد سبق وتناولت الديك الرومي مرات لا تحصى، ولكن لم أذق طعما أطيب من هذا الديك. ماهي الطريقة التي تطبخه بها؟)
رد بعنجهية: سألني قبلك الكثيرون ورفضت أن أعطي طريقتي لأحد!
ظننته يمزح، فعاودت السؤال.أصر على موقفه: لا أعطيها لأحد!
بعد أكثر من خمس وعشرين عاما، ومنذ فترة ليست طويلة كنت في مجمع عزّاء،أعزي صديقة لي بوفاة والدها، وإذ بي وجها لوجه مع سعيد! لم أعرفه في البداية، إذ لم يبق منه إلا الخبث الذي يشع من عينيه.حاربته السنين حتى أنهكته وسلبته محاسن نفسه، قبل أن ينهكه التقدم في العمر… خسر زوجته وأولاده بعد الطلاق، وانتهى وحيدا يعد الملايين في حسابه البنكي، بينما يحترق قهرا من شدة الطمع والبخل!
هل تستطيع أن تتخيل مخلوقا يضِنّ عليك بطريقة تحضيره لوجبة طعام،بينما تغص بها الآلاف من كتب الطبخ في أمريكا؟ لم يكن طلبي إلا نوعا من الإمتنان والشكر، وكان أقل ما يعنيني أن أعرفها…
………
عام 2007 وقعت الحادثة الثانية.
كانت يومها أسعار البيوت في أمريكا قد تضاعفت ثلاث مرات في غضون سنوات قليلة… اشترت زميلة لي بيتا بسعر خيالي، ودعتنا إلى حفل الانتقال إليه… الحديقة الخلفية كبيرة جدا، وجزء كبير منها يغص بنباتات “قرن الغزال”.
عشرات القرون تشرئبّ بلونيها الجميلين الأخضر الغامق والفاتح… لقد رأيت أشكالا كثيرة لهذه النبة لكنني لم أر أجمل من هذا الشكل… تستطيع أن تدرك من خلال نظرة بسيطة أن الحديقة كانت مهملة، ولم يتم تشذيبها بطريقة دورية، ولذلك نمت القرون بشكل اعتباطي وكثيف.
في نهاية الزيارة التفتّ إلى زميلتي وطلبت بأدب أن آخذ قرنا منها لأُكاثره.ردت هي الأخرى بطريقة عنجهية: ليس الوقت مناسبا لقلع أي منها، سأعطيك واحدا في الخريف!!
مرّ أكثر من عشرة خريفا ولم أرها….لكن في الخريف الذي تلا لقائنا هذا، سقط سوق البناء في أمريكا وضرب القاع،فهبط سعر البيت إلى أقل من ثلث قيمته… خسرت ليلى بيتها، فاستولى عليه البنك وطارت معه القرون!!!
القضية هنا ليست قضية بخل وحسب، إنها قضية لؤم وخبث…إنها قضية أرواح خبيثة وشحيحة، تريد أن تحتكر الكون لها،فراحت تنشد المزيد ولا تعطي…
………
تحضرني هنا قصيدة “التينة الحمقاء” للشاعر إيليا أبو ماضي، التي وصف فيها شجرة تين توقفت عن الاخضرار والإثمار، كي لا يستمتع أحد بجمالها وثمارها، فقال على لسان الشجرة:
“بئس القضاء الذي في الأرض أوجدني….عندي الجمال وغيري عنده النظر
لأحبسنّ على نفسي عوارفها….فلا يبين لها في غيرها أثر
ولست مثمرة إلا على ثقة….إذ ليس يطرقني طير ولا بشر”
ولأنها يبست من شدة اللؤم، انهال الفلاح عليها بفأسه، وحوّلها إلى حزم من الحطب.
ثم يختم شاعرنا المبدع قصيدته ببيت القصيد:
“من ليس يسخو كما تسخو الحياة به……فإنه أحمق بالحرص ينتحر”
لقد انتحر سعيد انسانيّا، وانتحرت معه ليلى!!!
كلما حرصتَ على ماتملك شحّ وتلاشى، وشحّت معه روحك.بينما كلما قبلتَ أن تكون معبرا له، ومن ثم مصبّا كلما ازداد نبعك غزارة ودفقا! عندما يفتح الكون يده عليك أن تفتح يدك، وإلاّ سيشحّ ضخه، وكلما ازدادت يدك رحابة ازداد هو دفقا!
………
كما تعلمت من أخطاء غيري، تعلمت أيضا من أخطائي، إذ لم أكن منزّهة عنها.
كان لنا صديق سوري “بخيل” جدا جدا، وكنا نحن أصدقاؤه نروي طرائف عن بخله، ونجعله موضوع ثرثراتنا في أكثر اللقاءات…
عندما اشتريت بيتي الأول عام 1999، دعيت شلة من أصدقائي إلى حفلة الانتقال إليه … كالعادة في امريكا.جاؤوا محملين بالهدايا….دخل سليم وفي يده قِدر صغير بحجم فنجان الشاي، وفيه شجيرة صغيرة،طولها عدة سنتميترات.ناولني اياها وهو يقول: أعرفك تحبين النباتات، فاخترتها لك كهدية!
كانت حديقة البيت مهندسة بطريقة فنية للغاية، إذا كان البيت نموذجا مصمما ليكون دعاية لشركة البناء، ومما يطلقون عليهThe model لم يكن في الحديقة شبر من الفراغ كي أزرع فيه الشجيرة،
فرُحت استهزئ أمام الأصدقاء وأتمسخر معهم على هدية سليم، حتى نسيت مع الأيام ما فعلته بها.
بعد حوالي عامين حشرتُ نفسي داخل حرج من أحراج الحديقة، ورحت أقلّم بعض الأغصان، وأتخلص من كثافتها التي حجبت الكثير من الأزهار والورود. وإذ بي ألمح بين تلك الأحراج شجيرة صغيرة طولها أكثر من قدم، تبدو أوراقها جميلة جدا تلمع تحت أشعة الشمس، وكأنها مدهونة بالزيت.
أمعنت النظر فيها حتى تأكدت أنها شجيرة سليم…
بعد حوالي خمسة عشر عاما، اشرأبت تلك الشجرة حتى تجاوزت سقف الطابق الثاني، وغطت بغصونها الجميلة وظلالها الوافرة الحديقة الخلفية بكاملها.
عندما عرضنا البيت للبيع، دخل المشتري الجديد على الحديقة ووقف مذهولا أمام تلك الشجرة، ثم قال:هنا سأقضي معظم أيامي بعد أن أتقاعد. ستكون هذه الشجرة صديقتي!
بالمناسبة، بعنا البيت بمبلغ ثلاثين ألف دولارا زيادة عن السعر المطلوب، لأن الشاري تنافس مع ثلاثة عروض اخرى…وربّما كانت شجرة سليم “حبة البركة” التي كسبناها فوق الكعكة…
اليوم وكلما تذكرت سليم، أرسل له بطاقات حب وتيارات من طاقات ايجابية، وأتمنى له طول العمر وسعادته…..ثم أغطي وجهي خجلا منه ومن نفسي!!!
لقد تعلمت من تجربتي معه أن زيارة أي انسان هي أعظم هدية يقدمها لي،وخطوته داخل عتبتي هي جلّ ما يسعدني.
باختصار، كل إنسان يزورني يباركني…لا لأنني مكتفية ماديا، بل لأنني مشبعة روحانيا ومنتشية إنسانيا.وتعلمت أيضا أن أمتنّ لباقة بصل في ثلاجتي، فأنحني إجلالا وتقديرا لجهود الفلاح الذي زرعها وقطفها!
بناء على ذلك، غصّت ثلاجتي وعبقت حياتي بكل طيوبها….
تصفح أيضا
وفاء سلطان:
البارحة نشرت بوستا مفاده ان مقدار سلامك الداخلي هو انعكاس لعملك وإيمانك ونواياك وأفكارك وصداقاتك وعلاقاتك ونجاح اسرتك.
فكرة البوست ولدت بعد محادثة على الخاص مع شخص لم أكن أعرفه من قبل، شخص متدين جدا جدا،
ولكنه كان مهذبا ولطيفا، لسبب واحد التقطته من خلال الحديث ألا وهو أن لديه شكوكا بطبيعة ما يؤمن به
أراد أن يجرني لأفصح عن كل ما أعرفه بهذا الخصوص، لأن ما أقوله راح يغوص في تلافيف دماغه ويحرك شيئا عنده.
في سياق الحديث قلت له: أشعر أنني أسعد امرأة في العالم، والشخص الأكثر سلاما
فردّ على الفور:
بعكسي تماما فحياتي قاسية جدا، وتابع: أعيش وأشعر أن كل شخص يتعامل معي بوحشية لأنني إنسان طيب وأخاف أن اؤذي أحدا.
قلت: الطيبة لا تعني أن تترك الوحوش تنهشك!
فردّ: أخاف من الله
قلت: ومتى كان الدفاع عن النفس ضد مشيئة الله؟
لن أخوض أكثر في بقية الحديث، لكنني أود أن أعلق على ما سبق وذكرته منه.
عندما أقول أنا أسعد امرأة في العالم والأكثر سلاما، لا أقصد أنني لم أحزن ولم أتألم، فالحزن والألم جزء من الطبيعة البشرية وعامل فعّال في ديناميكية الحياة.
الحزن ليس الوجه المغاير للسعادة، بل التعاسة هي ذلك الوجه.
نعم، لم أشعر يوما أنني تعيسة، ولكنني حزنت مرارا كردّة فعل على حدث ما.
الحزن شعور عابر يثيره حدث مؤلم، أما التعاسة فهي حالة عقلية دائمة تستنزف طاقة البشر وتحولهم إلى
دمى لا حياة فيها، يشعرون عندها أن لا قيمة ولا فائدة لوجودهم
بالمناسبة، استطيع ان أعمّم وأقول: لم أصدف في حياتي متدينا مهووسا وخضت قليلا في حياته إلا واكتشفت أنه تعيس إلا حد الاستنزاف، والإفراط في تدينه ليس أكثر من وهم، وهم يشبه إلى حد بعيد وهم الغريق عندما لا يجد سوى قشة فيتعلق بها.
الإنسان يملك إرادة حرة وهي وحدها، ولا شيء غيرها، ينقذه من تعاسته
أما الله فهو صوت الضمير في أعماقه، ذلك الصوت الذي يعزز إرادته ويضيء له الطريق
ولقد أضاء لي الطريق حتى صرتُ أرى ثقب الإبرة خلال لحظة ظلام دامس
فأدخل فيه الخيط كي أشبك جروحي وجروح الآخرين
عبد الله السيد ولد اباه*:
“يورغن هابرماس” هو بدون شك أهم فلاسفة الغرب الأحياء وقد وصل سنّ الرابعة والتسعين، وأصدر عشرات الكتب الفلسفية والاجتماعية الهامة، آخرها كتابه المرجعي في تاريخ الفلسفة من مجلّدين.
لقد كتبتُ حوله الكثير وصحبتُ أعماله الفكرية منذ مطلع الثمانينات، بيد أنّ الحديث اليوم يتعلّق بالموقف الذي عبّر عنه في عريضة وقّعها باسمه مع آخرين، بخصوص الأحداث المأساوية التي تمرّ بها غزّة حاليًا.
ما استوقفني في العريضة أمران، أوّلهما التأكيد على “شرعية” العدوان الإسرائيلي على سكّان غزّة من منظور “حق الدفاع عن النفس”، وثانيهما القول بأنّ اتهام إسرائيل بشنّ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني مظهر من مظاهر العداء للسامية!
لم يذكر في العريضة أيّ شيء عن الاحتلال الإسرائيلي وحق المقاومة الفلسطينية الذي تكفله المواثيق والقوانين الدولية، ولم يتم الاعتراف بجذور وخلفيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يبدأ يوم 7 أكتوبر.
لقد استغرب الكثيرون مواقف الفيلسوف الألماني العجوز الذي يقدّم نفسه بكونه آخر مدافع عن تركة التنوير والحداثة الإنسانية، وأكبر معارض لليمين المتطرّف في أوروبا والنزعات الشعبوية العنصرية المتنامية في القارة. والواقع أنّ هابرماس لم يُخفِ يومًا من الأيام نزعته المركزية الغربية، من خلال الصراع المحتدم الذي خاصه ضد الأفكار التفكيكية والنقدية في الفلسفة الغربية من نيتشه إلى هايدغر وفوكو وديريدا.
ما حاربه هابرماس لدى هذا التيار الواسع الذي يصفه بالعدمي هو التشكيك في السردية العقلانية التنويرية لأوروبا الحديثة، برفض القول بالخلفيات السلطوية والإقصائية في الخطابات المعرفية والعلمية التي تدعي الكونية الموضوعية والمحايدة.
وعلى الرغم من تشبث هابرماس بالأنموذج التواصلي المفتوح القائم على التداول البرهاني الحر، إلا أنه في الحقيقة لم يسعَ يومًا إلى اكتشاف الثقافات الأخرى، بما يبرز جليًا في كتابه الأخير حول تاريخ الفلسفة الذي ينطلق فيه من مركزية اللاهوت الأوروبي في تشكّل المنظومات الفلسفية.
ما علاقة هذا التوجّه الفلسفي بتعاطفه مع إسرائيل وتنكّره لحقوق الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة؟
العلاقة واضحة، وهي أنّ هابرماس عاجز عن التفكير خارج مقاييس الكونية الغربية حيث تشكّل الحالة الإسرائيلية امتدادًا طبيعيًا للسياق الأوروبي، ومن هنا إشارته إلى حساسية موضوع المحرقة اليهودية بالنسبة لألمانيا، وكأنّ الشعب الفلسطيني مسؤول عن هذا الحدث الذي تمّ في العمق الأوروبي.
الغريب أنّ هابرماس المدافع بقوة عن الشرعية المعيارية الإجرائية التي هي أساس المدونة القانونية الحديثة والمتشبث بعقلانية المجال التواصلي خارج أي تدخل للمرجعيات الدينية المقدسة، لا يشعر بالتناقض وهو ينحاز لأخطر الأنظمة اليمينية المتطرّفة حيث تتحالف الصهيونية الدينية المتشدّدة مع الأحزاب العنصرية الفاشية .
وصفه الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”
لقد تعلّل هابرماس بما أسماه استثناء الديمقراطية الإسرائيلية، دون أن يقف عند المرجعية المسيانية للدولة التي حصرت هويتها القومية في مكوّنها اليهودي، بما يعني إقصاء خمس سكانها وهم من نسيجها المسلم والمسيحي الأصلي، كما أقامت في المناطق المحتلّة نظام تمييز عنصريًا لا يختلف في شيء عن حالة جنوب إفريقيا السابقة حسب إقرار رئيس الموساد السابق تامير باردو.
كيف يمكن الحديث عن دولة ديمقراطية تقوم على العنصرية والتطهير العرقي، وترفض معايير المواطنة المتساوية وتكرّس الاحتلال الاستيطاني؟
لقد وصف الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” مفكّر التواصلية هابرماس بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”، ويعني بهذه العبارة أنه ينتمي للفكر نفسه والمرجعية النظرية نفسها وإن اعتمد قاموسا أخلاقيًا عقلانيًا. هل يمكن من هذا المنظور لفيلسوف أوروبا الكبير أن يستوعب المأساة الفلسطينية التي هي بالفعل حرب إبادة حقيقية، وكل من يبررها هو شريك في العدوان والمذبحة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فيلسوف وباحث وكاتب وأكاديمي موريتاني
جلـ ... منار
ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!
نشرت
قبل أسبوعينفي
9 نوفمبر 2024من قبل
التحرير La Rédactionصبحي حديدي:
بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار “المشبوهين المعتادين” القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز.
“ساندرز” يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.
ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: “بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ”.
ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد “غضب” شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.
في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 بالمائة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها “جزيرة القمامة” مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.
وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA (مختصر للحروف الأولى من شعار ترامب الانتخابي باللغة الإنكليزية: جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) هي ‘أعظم حركة سياسية في التاريخ’؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.
كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
وفي قلب الـ”ماغا” كان يتنامى هوس “القومية الأمريكية” الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات “التفوّق” العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من “القِيَم” الأمريكية.
وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ”ماغا” فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من “واجب مقدّس” أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل “الإمبراطورية بالصدفة العمياء” و”الإمبريالية بالتطوّع” و”العبء الجديد للرجل الأبيض”. وفي كتاب بعنوان “السلام الأمريكي” صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فيتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: “على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا”!
والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟ للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّة سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار “نطاسيي” الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ”ماغا” في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.
وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.
ـ عن “القدس العربي” ـ
صن نار
- ثقافياقبل 51 دقيقة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل ساعة واحدة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل 11 ساعة
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل 22 ساعة
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 3 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 3 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟