” … هكذا كان تعليق التوانسة بأسلوبهم الساخر و تنبيرهم السوداوي المعتاد بعد الانباء المتواترة عن تشجيع الحكومة للاستثمار الأجنبي في بلادنا و ذلك بتمكين الليبيين من الحق في امتلاك العقارات في تونس (هذا الحق كان موجودا و لكن يخضع لمجموعة من الضوابط و القوانين أهمها الحصول على ترخيص من الوالي.
كما تواترت الأنباء عن اعتزام الحكومة كذلك التفويت في الأراضي الدولية لفائدة المستثمرين القطريين ( رغم نفي رئيس الحكومة لذلك _ لكن الأحداث في تونس علمتنا أنه ” ما ثماش دخان بلاش نار” _)، فشعر التونسيون بأن الحكومة لم يبق لها إلا أن تبيعهم في سوق النخاسة…. و عادوا إلى الاستشهاد بما رواه البلومي في أحد برامجه عن سعر بيع الخصية الواحدة و صاروا يخشون أن تبيعهم الحكومة في سوق ” قطع الغيار البشرية” …
و لكن بعيدا عن السخرية و التنبير و إذا ما نظرنا إلى الأمر بصورة عقلانية فإنه قد يكون تقديم التسهيلات من أجل استقدام المستثمرين أمرا إيجابيا و يمكن أن يخرج تونس و لو نسبيا من أزمتها… لكن هل فكرت الحكومة في الشعب التونسي قبل أن تفكر في هذه الحلول حتى صار الفرد منا يشعر بأنه لم يعد مرغوبا به في بلاده. و لا أخفيكم سرا إن قلت أنني في كل مرة و مع كل قرار حكومي جديد يتبادر إلى ذهني سؤال واحد : ما هو العضو الذي تفكر به الحكومة ؟ هل فكرت الحكومة في تبعات قرارات كهذه على شعب تهاوت قدرته الشرائية إلى ما دون المعقول و يعيش حوالي ربعه تحت خط الفقر… ؟؟
فإذا كان الحق في تمليك الأجانب إجراء معتمدا في عديد البلدان فإن هذه البلدان قد ضمنت قبل كل شيء حق أبنائها و يسّرت عليهم إجراءات التمليك و رفعت من قدراتهم الشرائية حتى لا ينافسهم الأجنبي و يبدو لي أنه من حقنا أن نتساءل اليوم : لماذا لم تفكر الحكومة في منح نفس التسهيلات للشباب التونسي ؟ لماذا لم تُتح لهم إمكانيات الحصول على قروض و لم تساعدهم على تكوين شركات فلاحية تسمح لهم بالحصول على امتيازات استغلال أراضينا ؟
هل فكرت الحكومة في تبعات تمليك الأجانب للأراضي الفلاحية أو حتى مجرد اكتفائهم بالاستثمار فيها؟ هل تستطيع الدولة حينها التحكم في نوعية المنتوج.. هل تستطيع تأمين الأمن الغذائي التونسي؟ هل تستطيع التحكم في كمية المياه التي سيقع استغلالها ( و أزمة المياه تتفاقم في تونس يوما بعد يوم)؟ لماذا يشعرنا أهل السلطة في خطاباتهم و حواراتهم خاصة خارج الوطن أننا صرنا شعبا متسولا يعيش على عطايا الآخرين و حسناتهم؟؟ كيف يمكن لشعب أن يعيش على الهبات و القروض؟!!
و من سيقرض شعبا لا يعمل و لا يريد أن يعمل و حتى إن عمل فدون إنتاج أو مردودية… شعب يرضى العاطل فيه أن يسجل في قائمة عمال الحضائر أو البستنة على أن يبادر و يجتهد… شعب يعيش بعقلية ” المسمار في حيط و رزق البيليك.* . شعب يبحث عن أكبر قدر من الامتيازات بأقل حد من المجهودات شعب يفضل العمل وفق نظرية ” الغنم الأسنى و الجهد الأدنى” التي لامنا عليها حمار الحكيم.
إن المتمعن في واقع البلاد يدرك أنّ أمام الدولة حلولا أفضل و أجدى و أبقى من الاقتراض لكنها عاجزة عن القيام بها ، بل تبدو عاجزة حتى عن مجرد التفكير فيها بسبب عدم قدرتها على فرض هيبة القانون و معاملة الجميع على قدر من المساواة و خوفها من الاعتصامات و الإضرابات و خشيتها من لوبيات المال و الأعمال المتمعشين من الاقتصاد الريعي و المستفيدين من بقاء الوضع على ما هو عليه…
حكومة تلجأ إلى التسول و الاقتراض لأنها عاجزة كسابقاتها من الحكومات على استغلال موارد البلاد و ثرواتها … فإن كانت الحكومة قد نسيت فإننا لم ننس أن الفوسفات متوقف منذ سنوات طويلة و أن الخسائر في هذا القطاع فاقت 10 مليون دينار دون أن يتمكن أي كان من إيقاف هذا النزيف… و إن كانت الحكومة قد نسيت فإننا لم ننس أن نسبة المشتغلين في التجارة الموازية قد تضاعفت في السنوات الأخيرة و أن حوالي 50٪ من الاقتصاد التونسي هو اقتصاد غير مهيكل و أن المشتغلين في هذا المجال لا يخضعون للضرائب و لا تعود أرباحهم بالنفع على المجموعة الوطنية .
و إن كانت الحكومة قد نسيت فإننا لم ننس ما للببروقراطية و عقلية أرجع غدوة و غياب الرقمنة و ما للإضرابات المتواصلة من أجل الترفيع في الأجور و تحسين الامتيازات من تأثير سلبي على نسبة النمو و على الدفع نحو الاستثمار. و إن كانت الحكومة قد نسيت فإننا لم ننس الأموال التي تبخرت و القروض السابقة التي لا نعرف كيف أُنفِقت أو فيم صُرفت… ؟
لن أعقد مقارنات مع دول أخرى كنا في ما مضى نفوقها تقدما و ازدهارا و تطورا في الصحة و التعليم و النقل و البنية التحتية فتجاوزتنا في أقل من عشر سنوات غير أنها أحسنت التخطيط و التفكير و آمنت بالعمل قيمة و وسيلة، و لكن سأطالب كما طالب الكثيرون بأن آخذ حصتي من القروض التي ستحصل عليها تونس في المستقبل ” كاش” و سأتولى توظيفها و استثمارها بمعرفتي و في ما أريد…