كيف يكون التلميذ متميّزا اليوْم … رغم أنف مدرسة غير متميّزة ؟
“المعدّلات العالية هي دائما مؤشر تميّز، لكن المعدّلات المتوسّطة ليست دائما علامة فشل” ـ بهجة الحياة إيبانوي
نشرت
قبل 3 سنوات
في
يبدو أن التحوّلات العميقة الحاصلة اليوم في العالم على مستوى مَلْمَح المهن الجديدة ومناخات الرّقمنة المُعمّمة وأنماط العمل المستحدثة وأنواع المهارات المطلوبة، واستفاقة الانسانية على اكتشاف مكوّنات منسيّة من الذكاء المُخلِّصِ من سَطْوة نموذج الذكاء المدرسي التقليدي، والمُحرِّر من النمذجة القاتلة للبراعم والأجِنّة أحيانا … يبدو أن هذه النُّقلة الحديثة الجارية حاليا هي الآن بصدد نحت ملامح تلميذ المستقبل، وخاصة بلورة تعريف جديد لمفهوم التلميذ المتميز والقادر على اقتحام أبواب المستقبل بأكثر يُسرا وبناء مسار واعد بصورة ذاتية.
قد تسمح لي بعض التجربة في علاقة بمدرستنا وجامعاتنا التونسية وبالدراسة والعمل بالخارج بالوقوف على بعض الاستنتاجات، وقد تُتيح لي بعض الأمثلة الحية التي عايشتها الوقوف على واقع متفوّقين درسوا في أكبر الجامعات العالمية وعادوا إلى تونس مُنهَكين نفسيا ودراسيا، ومتوسّطين صمدوا وقاوموا وتدبّروا وثابروا وكان لهم ما يريدون وأحيانا أكثر مما يريدون … قد يسمح لي كل ذلك بوضع تصوّر ولو بصفة سريعة وعامة لمن هوّ التلميذ المتميز مستقبلا في ضوء التحولات المذكورة آنفا :
التلميذ الواعد أوّلا هو التلميذ النّاجي من الابتدائي
لم يعُد سرّا أو مجرّد تخمين كون الطفل يتشكل جزء كبير من شخصيته والنواة الصلبة لديه وتنمو بذور ما سيصبح إمكانيات ومهارات وقدرات فيما بعد… خلال المرحلة التحضيرية (إن وُجدت) والمرحلة الابتدائية. والمطلوب اليوم أصبح عبور الطفل لهذه المرحلة بأخف الأضرار والتشوّهات إن لم تتوفّر البيئة التربوية التي نما فيها (مستوى كفاءة المعلّمين ومضامين البرامج والمناهج الدراسية وجودة الحياة المدرسية…) على ما يجعل سبع سنوات بِكْر ، طبقة سميكة من الفِطنة والشّغف والنّباهة.
التلميذ الألمعي ثانيا هو تلميذ ماسك بناصية التكنولوجيا ولكن ليس سجينا لها
اللوحات الرقمية والحواسيب المتطوّرة والهواتف نافذة الذكاء تُستعمل وسط كثير من العائلات كأدوات إلهاء أو كوسائل إشباع عاطفي أو كذلك كمُحفّزات محفوفة بخطر الإدمان الأبله، ونادرا ما يتمّ توظيفها لتعزيز المناعة الذهنية واكتساب القدرة على تخصيب العقل وحسن استعمال مكنوناته الجبّارة.
التلميذ المتميّز ثالثا هو تلميذ يُطالع كما يأكل
هذا النموذج من التلاميذ يُطالع بنهم وشغف كبيرين ليصبح باحثا عن كتابِه بعيدا عن دفع والديْه وإلحاحهما، لأن القراءة كما يؤكده خبراء العلوم العصبية “تساعد على مقاومة تهرّم القدرات الذهنية وتُنمّي الذاكرة وتُعزّز روح التعاطف والغيْريّة” علاوة على أنها ترتقي بالقدرات التخيُّليّة، وتسمح كذلك بتحقيق هُدنة واسترخاء ضروريّين في زحمة يوم كامل من القصف المركّز الذي تمارسه ملايين المواقع الالكترونية والصفحات المتخصصة في قنص انتباه المتفرّج الرّقمي والتطبيقات المُدجّجة بالكمائن المشهديّة المُغرية.
والمطالعة حسب تجربتي الشخصية، خاصة عندما تكون مُركّزة ومنتبهة لتفاصيل ما يُقال (لا فقط صورا وخيالات لتمضية الوقت) ترفع من منسوب اللغة التي يتملّكها الفرد (كمّا ونوعا) وتُدرّبه على أن يكون مزهوّا حدّ الانتشاء تحت تأثير لغة مُطرّزة ونفائس بلاغيّة قُدّت من ذكاء كبار المُفكّرين وعبقريّتهم… وكل ذلك دون منشّطات خارجية مُدمّرة، والمطالعة أيضا كاسِرة لضيق الأفق وكاسحة لجميع أنواع الحدود التي تفرضها اللغة والدّين والثقافة والجمارك.
التلميذ المُستقبلي رابعا هو تلميذ اتصالي
هو تلميذ لا فقط يُتقن العدّ والقراءة والكتابة بل كذلك يُجيد الكلام ويُحسن الحديث. (انتبهوا قليلا إلى انسيابيّة الحديث لدى تلميذ الـ 15 سنة في تونس مع نظيره الألماني، أو السويدي وستكتشفون أن الطفل أو الشاب التونسي يُجيب عادة بمقاطع لغوية مبتورة مثل “لاباس مريقل” أو “سافا سلّكتها” أو “نحب كيف نكبر نعمل مشروع والا حْكاية” … بينما يقدر نظيره على تأليف جُمل واضحة المعنى والتركيب إلى حدّ كبير كأن يقول “أعتقد أن شباب اليوم يقرأ أقل من جيل الآباء والأمهات ولكن خاصة جيلي أنا يقرأ أقل من أجل المتعة الخالصة” (هذه شهادة واقعية لشاب فرنسي عمره 16 سنة). المهارة الاتصالية كتابة وكلاما شفويا جواز ثمين عابر للقارات دون تأشيرات بائدة وسلاح فعّال أثناء حوارات الانتداب التي يُديرها كبار المختصين في صيد الكفاءات وتخيّر أفضل الموارد البشرية.
التلميذ النّاجح خامسا هو تلميذ مستقلّ بعد عتبة عمريّة معيّنة
أذكر أن صاحب أفضل معدل في باكالوريا إعلامية في جهة من جهات بلادي خلال السنة قبل الماضية تحدثت إليه وكم صدمني عندما أكّد لي أن الكوفيد والدراسة بنظام الأفواج وبعض الضّجر من مضامين بعض المواد وطريقة تدريسها، جعلته لا يحضر سوى ثلاث حصص بالمعهد الذي درس به طيلة سنة دراسية كاملة. مستقلّ هنا بمعنى تلميذ مسؤول، يتدبّر أوقات المراجعة دون ضغط أو ملاحقة ويتخلص بتعقّل من سلطة الأستاذ كمصدر أوحد للمعرفة ويتعلم بصورة ذاتية (37 مليون متعلّم بصفة حرّة في منصّة “كورسيرا” الأمريكية بمساهمة 150 جامعة عبر العالم في 2018).
التلميذ الذي لا خوف عليه سادسا هو تلميذ متوازن
هو فرد متصالح مع جسده ومُطمئنّ دون غُلوّ أو تبخيس إلى أصوله العائلية والاجتماعية، حاملٌ لقيم إيجابية يؤثثها حب الناس وتثمين الذات واحترام الآخر ونبذ الغرور وقلة الحياء. وهي طِباع ممكنة تماما مَوْكولة للأولياء والمربّين … حتى يكون الطفل واليافعون عامة متخلصين من مُعيقات التواصل مع الآخر مهما كان، أقول هذا لأن عددا كبيرا جدا من الصعوبات التي يعانيها التلاميذ مردُّها خجل مبالغ فيه وخوف من الكلام وذعر من الإجابة وتهيّب فتّاك إزاء مفاتحة شخص من الجنس الآخر… هو تلميذ واقف جيّدا في حذائه كما يُقال.
التلميذ ذو الشأن أخيرا هو الذي يستحضر كل هذه الآفاق
العالم لا يعرف أين يمضي تحديدا لكنّه لا يكفّ عن محاولة توقّع ما سيحدث مستقبلا. يُقدّر المتخصصون في رصد توجهات سوق الشغل العالمية أن المهن التي ستنتدِب أكثر من غيرها في المستقبل هي :
مهن الصحة ومهن الخدمات الموجهة للأشخاص ومهن البيئة والتكوين والتدريب وفق معايير جديدة coaching وتقنيو الإعلامية وحماية المعطيات والمختصون في الحماية السيبرنية والذكاء الاصطناعي في كل المجالات الاقتصادية والروبوتيك والمؤثرون ومصمّمو المواقع على الواب والمهن القانونية في المجال الرقمي وصانعو المحتوى. هنا لا بد من الإشارة إلى أن المحتوى الأسهل استهلاكا هو الفيديو (حسب مؤسسة سيسكو الشهيرة في الاعلامية والشبكات 80 بالمائة من المحتويات في المستقبل ستكون عبر الفيديو)، وكذلك مطوّرو البرمجيات المحمولة (258 مليار تحميل لتطبيقات مختلفة خلال 2022).
من يضع صوْب عينيْه هذه الآفاق المتنوّعة والمُثيرة سيتدبّر بالتأكيد أمر مستلزماتها ويمضي إلى مستقبل مُشرق هو سيّدُهُ.