وهْجُ نار

لا تتركوا قابيل يقتل هابيل … مرّة أخرى !

نشرت

في

عاشت تونس بعد 2011 عملية سياسية معقّدة، واكتشف الشعب أن أعداء الداخل أكثر عددا من أعداء الخارج…فأعداء الداخل هم أولئك الرافضين للتغيير الذي لا يمكن بأية حال الوقوف بوجهه…وهؤلاء ليسوا بقايا المنظومة السابقة كما يدّعي البعض وكما يدّعي “ثورجية” الوقت البديل أو الدقائق الخمس الأخيرة…

<strong>محمد الأطرش<strong>

فالرافضون للتغيير اليوم هم أولئك الذين انتفعوا بما بعد 2011 ولم يقرؤوا “وأما بنعمة ربّك فحدّث” والبعض ممن انتفعوا بما قبل 2011 وواظبوا على قراءة “وأما اليتيم فلا تقهر”…وهؤلاء قد تجد بعضهم تحت قبّة باردو…وقد تجد بعضهم في مواقع أخرى أقلّ أهمية…فجميع مصالحهم تتقاطع وتلتقي في نقطة مفصلية منفعية لا يريد هؤلاء أن يتخلّوا عنها أبدا…لكن السياسي الفطن عادة ما يحتاج إلى مراجعة نقدية لفعله السياسي وهو ما يتطلّب شجاعة كبيرة لا تتوفّر عند جميع ساسة اليوم أو ساسة الوقت البديل…

قلّة من هؤلاء يفكّرون بالعقل والمنطق ويريدون التأسيس لمرحلة أكثر شفافية من سابقاتها…ومن أهمّ عوامل نجاح أية مراجعة في عقلية السياسي هو التخلّص من شوائب الطرح العقائدي أو الإيديولوجي أو التنظيمي وإلغاء العيش في المنطق الضيّق للانتماء الحزبي أو حتى الانتماء الفكري البغيض الرافض للآخر والمشيطن للضدّ والمنغلق في دائرة حكم الفرد وعقلية “أنا أو لا أحد”…

فالمنطق الأهمّ هو المنطق الأوسع والأشمل هو منطق الدولة وما يقتضيه من توسيع دائرة الانتماء الوطني، على حساب الانتماء الضيق، سواء كان الحزبي أو العقائدي أو الإيديولوجي أو الهَوَسي (من الهَوَس) الذي اكتشفناه حديثا عند ساكن قرطاج فهو المهووس الأكبر والأخطر في تاريخ البلاد بالحكم الفردي …لذلك تحتاج تونس اليوم إلى بناء وطني يجتمع على وضع أسسه جميع من يطمحون إلى بناء وطني جامع…يرتفع ولا يتراجع… يلتقي ولا يتقاطع…ولن يرتفع هذا البناء دون مراجعة شاملة للأخطاء التي وقعنا فيها جميعا قبل وبعد 2011 …

علينا قبل كل شيء الدفاع عن المكتسبات وتثمين وحماية الإنجازات التي تحقّقت قبل 2011 والتي تتعرّض بالأمس واليوم إلى شيطنة واسعة، وتشكيك كبير وتخريب ممنهج…فلن ننجح أبدا في حاضرنا إن لعنا ماضينا وشككنا في ما أنجزه بُناة الوطن…ولن ننجح أبدا في رسم ملامح مستقبل أجيالنا القادمة بشيطنة ماضينا وحاضرنا وبفكر سياسي “سلفي” منغلق والسلفية التي أقصدها هنا هي السلفية السياسية على المستوى الفكري والتنظيمي وليس على المستوى العقائدي والديني…فالسلفية السياسية قد تكون بنفس خطورة السلفية الدينية أو أكثر… فو الماضي ليس حتما الحاضر.. ولن يكون أبدا المستقبل…

كما أننا لن ننجح في نحت ملامح مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة، دون مراجعة أعمق للأخطاء التي أبقتنا نراوح مكاننا…ولن يكون ذلك بالسهولة التي يتصورها البعض…فالمراجعة الأعمق تتطلب معالجة بعض التكلس والترهّل الذي أصاب عقول البعض منّا، فالعيش مع الماضي لا يكون عبر استنساخ أخطائه والانغلاق في دائرته بل عبر تثمين نجاحاته وتطويرها وتوسيع رقعتها…ولا يعني ذلك فقط بمجرّد الإبقاء على بعض وجوه الماضي لأنها فقط تذكّرنا بالماضي…

وجوه فشل الماضي رغم قلّتها مقارنة بوجوه الفشل الحاضر الذي نعيشه منذ عشر سنوات لا يمكن أن تحقّق نجاحات الحاضر… ولا يمكن أبدا أن تكون ضمن حاضر نريده أجمل وأفضل…والوجوه التي لوّثت الماضي لا يمكن أبدا أن تصنع ربيع الحاضر… كما أن الوجوه التي لوّثت وتلوث الحاضر لا يمكن أن تكون أداة لصنع المستقبل…وعلينا أن نعترف اليوم أن المشهد الحالي خالي من الوجوه التي يمكن أن تنجح في تثمين مكتسبات الماضي ومنجزاته وتنجح في التأقلم مع حاضر قادر على بناء مستقبل أجيالنا القادمة…فأغلب مؤثثي المشهد اليوم هم من المنغلقين في دائرة فكرية وتنظيمية ضيّقة، والرافضين للانفتاح على حاضر أوسع واشمل من أجل بناء مستقبل أفضل لأجيال أصابها الإحباط واليأس بعد عشر سنوات من الأمل الكاذب…

ذلا أحد من الذين يحكمون هذه العهدة نجح في تغليب الخطاب الوطني الذي يلتقي مع انتظارات جيل كامل خاب ظنّه، ولا أحد غامر بتثمين تجارب قديمة وقعت شيطنتها ظلما وعدوانا… فالخطاب الوطني المشحون بالمشاعر الإنسانية يحقّق هدفه دائما، لأنه لم يغفل البعد الإنساني الذي غفلنا عنه ونسيناه منذ عشر سنوات من الحقد والكراهية…نحن اليوم أمام أكبر التحديات التي يمكنها أن تعترضنا في قادم الأيام، فنحن نعيش أسوأ أيام تاريخنا الحديث فمنسوب الحقد ورفض الآخر ارتفع إلى درجة قياسية، والخوف أن يصل بنا الأمر إلى التقاتل بالأسلحة بعد أن غرقنا في حروبنا الكلامية عبر وسائل التواصل والإعلام، وبعد أن أصبح العنف طاغيا على كل خطابنا السياسي..

علينا العمل على تغليب عقلية هابيل على عقلية قابيل…فلا يجب أن نسمح بمزيد الانزلاق إلى هذا العنف المجنون والحاقد الذي نراه اليوم ونسمعه عبر وسائل الاتصال السمعي والبصري…وعبر منابر سُميت منابر حوار لا منابر عراك وسباب وشتائم…علينا أن نثبت فعلا أننا من أبناء هابيل وألا نكون من أبناء قابيل الذين ينشرون ثقافة العنف والذبح والسحل وما أكثرهم في وطننا العربي بعد 14 جانفي…علينا أن نرفض العنف والقتل تحت أي مسميات كانت…فلا ديننا يحتاج إلى أن نقتل باسمه ولا الديمقراطية تحتاج ذلك أيضا ولا أن نعلن الحرب على إخوتنا من أجلها…

ختاما أقول تعالوا جميعا ننتصر لهابيل…وننتصر للحب…في زمن يحكمه أبناء قابيل…وما أكثرهم في تونس اليوم…فلا تتركوا قابيل يقتل هابيل مرّة ثانية…

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version