“” رن ّ هاتف الأب وهو في الحمام و الأم تصلي… ولدهم شد التليفون وقعد ينادى بابا بابا.. ” الملكة وردة” تطلب فيك! الأم كملت صلاتها وسلمت في ثوان! والأب طلع يجرى من الحمام! زلق طاح على ركبته… خطف التلفون من يد ولدو وقال له : منين جبت الملكة وردة ياثور ؟ مكتوب مكالمة واردة…. الله لا تربحك أنت واللى قراّك.. ورجع للحمام يعكز ! ورجعت الأم تعاود في صلاتها… “” …
هذه الطرفة و إن استعملت للتندر فإنها تعكس بجلاء مستوى التلاميذ و واقع التعليم في بلادنا و قد تحول في كثير من الأوقات إلى مجرد محو أمية….. هذه الطرفة دفعتني إلى التفكير في التعليم و المتعلمين و نحن على أبواب عودة مدرسية و جامعية لن أتحدّث عمّا نشاهده من تجاذبات سياسية عرقلت كل إصلاح تربوي لما يرتبط به من رؤى و تصورات إيديولوجية.. لن أتحدّث عمّا نشاهده من تجاذبات بين الوزارة و النقابات و لا عن نظام الأفواج و إشكاليات التلقيح و البروتوكول الصحي… و لن أسرد الأرقام من حيث الإحصائيات و الاستعدادات المادية و اللوجستية للعودة و لا من حيث غلاء الأسعار و ارتفاع تكاليف العودة بالنسبة إلى الأولياء… و لن أخوض في موضوع الدروس الخصوصية و المؤسسات الخاصة و التعليم الموازي و لا عن المدرسة العمومية و ما تواجهه من إشكاليات و صعوبات و لا عن الخدمات الجامعية و وضعية المبيتات و الأكلة الطلابية… و لن أقارن بين تلاميذ الريف و تلاميذ المدينة من حيث المستوى و النتائج و الإمكانيات و لن أتحدّث عن البرامج المتكلسة التي تراوح مكانها منذ 20 سنة تقريبا و لا عن الزمن المدرسي و لا عن ضعف التكوين و لا عن أعداد المقطعين سنويّا ….
و لكن سأتحدث عن الإنسان… عن التلميذ… مركز العملية التربوية و قوامها كما يؤكد على ذلك كل المختصين … يقول ألبرت أينشتاين: “كل إنسان هو عبقري بشكل او بأخر المشكلة أننا نحكم على الجميع من خلال مقياس واحد.. فمثلاً لو قيمنا سمكة من خلال مهاراتها في تسلق شجرة ستمضي السمكة بقية حياتها معتقدة انها غبية !” أ ليس هذا هو فعلا ما يحصل لأبنائنا و تلاميذنا؟ أ لسنا نطالبهم جميعا أن يجيدوا تسلق الشجرة و قد نسينا أن بعضهم لا يجيد إلا السباحة و البعض الآخر لا يجيد إلا الزحف أو القفز أو الطيران… أ لسنا من خلال المدرسة ببرامجها الموحدة و الجاهزة نتعامل معهم بطريقة لا تنتج غير النسخ المتشابهة و نحاول أن نخلق منهم قوالب متشابهة تقتل الفردية و الإبداع تجعلهم يسبحون ضد التيار معتقدين أنهم أغبياء حين يتجاهل النظام التعليمي مميزاته و خصالهم الفردية و اختلافاتهم و نقاط ضعفهم و نقاط قوتهم ؟؟!!!
أ ليست المدرسة بنظامها المتحجّر و شكلها الحالي و هندستها الجامدة و نظام الفصول فيها، مؤسسة قديمة لم تتطور منذ ثمانية عقود على الأقل فقد يدرس الجد و الأب و الحفيد في نفس المدرسة دون أن يتغير منها شيء.. هذه المدرسة التي تطلب من أطفال الست سنوات و من مراهقي الثلاث عشرة سنة و من شباب الثماني عشرة أن يقفوا في طوابير منظمة و أن يجلسوا في قاعات ضيقة متشابهة لا بهجة فيها و أن يستقيموا على طاولات غير مريحة لمدة سبع ساعات يوميا لتعلمهم ماذا يفكرون و فيم يفكرون و لتملي عليهم قواعد الرياضيات و النحو و العلوم و الفيزياء و لتجعلهم يحفظون التواريخ و الإحداثيات الجغرافية و الآيات الدينية و لتمتحنهم وفق نظام صارم فتخلق منهم آلات متشابهة، نسخا متطابقة….
لسنا اليوم في حاجة إلى آلات تفكير قدر حاجتنا إلى أشخاص يفكرون بطريقة مبدعة، منتقدة، مبتكرة، قادرة على التواصل، قادرة على الحلم إن أي عالم بإمكانه أن يؤكد انه لا يوجد عقلان متشابهان متطابقان و أيّ وليّ لديه أكثر من طفل واحد سيؤكد هذا التباين حتى و إن كانا توأمين … فلمَ نعامل التلاميذ كل التلاميذ و كأنهم نسخ متطابقة من شخص واحد و تفكير واحد و قدرات واحدة و تمثلات واحدة للعالم ؟ إن المدرسة بنظامها الحالي هي مدرسة متخلفة ترسخ الماضي و تهمل الحاضر و لا تؤسس للمستقبل مدرسة تهمل خصائص الفرد و لا تراعي اختلاف أنساق التفكير و التواصل و الاحساس، مدرسة تصبح فيها اللغات حجر عثرة أمام نجاح التلاميذ بدل ان تكون أداة للتفكير و النقاش و التواصل، و تصبح العلوم مجرد قواعد و معادلات جامدة بدل ان تكون مصدر متعة و اكتشاف و ابتكار و تصير فيها الجغرافيا و التاريخ مجرد أرقام للحفظ و الاستعراض بدل أن تكون عبرة و اعتبارا و منطلقا لفهم الحاضر و نقده و أساسا لبناء تصورات القادم. مدرسة يصبح فيها الفن و الرياضة مادة من المواد المحنطة محشورة وسط جدول مكتظ يقتل كل رغبة و اندفاع مدرسة تهمل لمسة الرسام و هبلة الممثل و براعة الرياضي و موهبة العازف و شوق الراقص إلى معانقة السماء و رغبة النحات في بعث الحياة و توق المزارع إلى تقبيل أديم الأرض….
نحن في حاجة اليوم إلى مدرسة تعزز المهارات الحركية و العقلية و النفسية و العاطفية للتلميذ، مدرسة تراعي الفروقات بين الأطفال و نحترمها بل و تذكي تمايزهم بدل أن تخمده و تقتله،. مدرسة تهتم بالمواهب و الطاقات و تستطيع اكتشافها و المحافظة عليها و تمتينها و دفعها يقول “مونتاني” : أن تعلّم طفلا ليس ان تملأ مزهرية بل ان تشعل نارا Enseigner un enfant n’est pas remplir un vase mais allumer un feu ( Montaigne) نحن في حاجة إلى مدرسة جاذبة شكلا و مضمونا، تشد التلميذ و تغريه تدفعه إلى البحث و إنتاج المعرفة عوض ان يكتفي بدور المتلقّي السلبي ، و تجعله يتخلص من إغراءات التلفاز و الهواتف الجوالة و الأجهزة الذكية و التطبيقات الإلكترونية و يقبل عليها بشغف لانه يكتشف فيها نفسه و يحقق ذاته و يشعر بقيمته و أهميته، و ينمي مهاراته مدرسة لا تفرض عليه أن يكون السمكة التي تتسلق شجرة.
و لئن كان التلاميذ اليوم يمثلون 20٪ أو 30٪ من سكان الحاضر فإنهم سيمثلون غدا 100٪ من مستقبلنا و مستقبل بلادنا فلنحقق أحلامهم و لنرافق تطلعاتهم فلا نجاح الا بنجاحهم.