تابعنا على

جلـ ... منار

“لزْرقْ، حجَرْ الوادْ”… أو الفهد الضاري

(بمناسبة ذكرى رحيل محمد علي الحامي)

نشرت

في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. عبد الحليم المسعودي:

أولا: بديعة هذه الصورة الفوتوغرافية من ناحية الضوء والظلمة، وفصيحة على لسان الجدل القائم بين الأسود الداكن والأبيض الناصع والرمادي بدرجاته جميعها. وبديعة هي في غلالة بروتوكولها الحازم في الثبات المتفاعل مع لحظة الالتقاط التاريخي الذي لن يتكرر في ذهن الأوبيراتور، أي ملتقط الصورة وكأنه يدّخرها للشهادة والمشاهدة. والحزم الفوتوغرافي كامن في كون شخوصها في حالة من التهيّبِ المتفلّتِ والمُتنقلِ من وجه إلى وجه للشخوص الماثلة في الإطار.

ولعل هذه الصورة الفضيّة تعبّر ببلاغة تقنية ما عن نضج تقنية الصورة الفوتوغرافية الفضيّة منذ ميلادها الشّبحي في القرن التاسع عشر وثبات فاعليتها في مطلع القرن العشرين وصولا إلى العشرية الثالثة منه. والصورة منذ الوهلة الأولى ضاجّة ببلاغة المدرسة الطبيعية (Le Naturalisme) التي تطبع الحقيقة كما هي وبمثل ما تسمحُ به حساسية العدسة, و ضاجّة أيضا بحشد من صور المجتمع البورجوازي و أساطيره الطيفية التي تُحيلنا إلى عوالم المحنة الدريفوسية (نسبة إلى قضية الضابط الفرنسي دريفوس Dreyfus) وخزانات إيميل زولا Emile Zola في فن الفوتوغرافيا والرواية الطبيعية التي أحسن توظيبها كموثق أرشيفي محترف. وأني (شخصيا) وخارج كل موضوعية والتزام بالموضوع (أي موضوع؟) و أنا أتامل هذه الصورة تتردد في ذهني كالصدى و بشكل حفيفي عبارة إيميل زولا أو عنوان مقالته الشهيرة: ” J’accuse …J’accuse …j’accuse ” .

الصورة مرتّبة عناصرها بشكل سيمتري قائم على تواز عجيب ضمن محصلة الصورة الجماعية. وندرك هذا التوازي في هيئة الذوات الأربع الجالسة على المقعد الجماعي للمتهمين في المحكمة ,وقد ارتسمت وراء كل شخصية ظلها أو قرينها، وما ظلها إلا بقية الشخصيات الواقفة على رؤوسها وبشكل سيمتري بديع ربما كان ذلك من ترتيب الصدفة. فمن يسار الصورة إلى يمينها ندرك أن البوليس الجالس له ظله الواقف أي بوليس آخر، والرجل الثاني الأنيق بشاربيه له من ورائه قرين والرجل الثالث النحيف وراءه من يماثله في السّحنة ودقة ربطة العنق والرابع بشاربيه وشاشيته له ارتسامه في هيئة الواقف وراءه بنفس الملامح والشاشية، أي أربع بأربع، باستثناء البوليس المتلصص في الخلفية والذي لا إخاله إلا ظلا لظل البوليس الجالس في المقدمة.

الروائي إيميل زولا صحبة آلة تصوير

هذه صورة أنطولوجية أخرى لا يمكن الاستغناء عنها أو نزعها من المدونة التاريخية التونسية المعاصرة. ولا يمكن للوعي التاريخي أن يسقطها من إدراكه وتمثله للتاريخ السياسي والاجتماعي المعاصر للبلاد التونسية. صورة قلما يعرفها الجمهور التونسي بمقابل معرفته بصور الحركة الوطنية التونسية. وأكاد أقول إنها صورة مغيّبة في كتب التاريخ التونسي “الرسمي” المعاصر. وقد يعود الأمر ربما لكونها صورة متعلقة بتاريخ ميلاد الحركة النقابية التونسية وتقاطعات هذه الحركة مع الحركة الشيوعية. و هو ما جعل المؤرخ التونسي الرسمي يستعمل غرباله الانتخابي ليدون تاريخا يعقوبيا ناصعا للحركة الوطنية دون استذكار روافدها وخلافاتها الأيديولوجية، و ربما ضمن استراتيجية الاستحواذ الأيديولوجي والزعاماتي للحزب الدستوري الذي صاغ تاريخا إقصائيا لفكرة الاختلاف و التنوع المتعلقين بالمعركة الوطنية, وهذا ما حدث بشكل ممنهج في تهميش هذه الروافد النقابية والشيوعية, و أقول حتى الفوضوية و تهميش دورها في الحركة الوطنية سواء في مجابهتها للاستعمار أو في بناء الشخصية التونسية القاعدية باعتبارها مرجعا في بناء الهوية التونسية وبناء الدولة الوطنية لاحقا.

الصورة هذه من مجموعة صور فيكتور صباغ Victor Sebag الفوتوغراف التونسي اليهودي الشهير الذي سبق وأن ذكرناه في مقالة سابقة (أنظر مقال “عوينة” بانكتوم الغيرية)، و قد التقطها في 12 من شهر نوفمبر عام 1925 في المحكمة الجنائية بتونس لمجموعة المتهمين من النقابيين والشيوعيين بتهمة التآمر على أمن و سلامة الدولة الفرنسية الاستعمارية. وتمتاز هذه الصورة بجودة عالية في التصوير الفوتوغرافي والكادراج وقد يعود الأمر لتمكن صاحبها من آلات حديثة للتصوير. ويبدو أن هذه الصورة طلبية من طلبيات إدارة الإقامة العامة الاستعمارية التي كان يتعامل معها المصور نفسه فكتور صباغ أو ربما لبعض وكالات الأنباء الأوروبية.

ثانيا : وتضم الصورة كلا من الزعيم النقابي التونسي محمد علي الحامي مؤسس أول نقابة تونسية والمعروفة تحت اسم جامعة عموم العملة التونسية (La CGTT) جالسا وعلى يمينه النقابي مختار العياري وعلى يساره النقابي الفرنسي جان بول فينيدوري Jean Paul Finidori, رئيس الجامعة الشيوعية (La Fédération communiste) ومدير جريدة المستقبل الاشتراكي (L’Avenir Socialiste) . ومن ورائهم وقوفا ثلة من المحامين التونسيين التي تذكر المصادر التاريخية أسماءهم كـ: صالح فرحات والطيب جميّل وأحمد الصافي والمحامين الاشتراكيين الأجانب مثل كاسترو Castro وفواسان Foissin و دوران أنغليفييل Duran – Angliviel و فيفاني Vivani إلى جانب حضور البوليس الفرنسي.

وقد جاءت هذه المحاكمة على إثر الإضراب الذي قام به عمال منطقة بوتانفيل (برج السدرية) وفي معمل “تارم” (Thermes) لشركة الجير والإسمنت بحمام الأنف والذي اتهم فيه الماثلون أمام المحكمة بالتحريض على الإضراب والإشراف عليه والسعي إلى المس من أمن السلطات الفرنسية وبث الفوضى عبر الإضرابات, وقد كانت الاتهامات موجهة خاصة للثنائي الأخطر الحامي وفينيدوري ثم الثالث مختار العياري …فينيدوري الكورسيكي المعروف لدى السلطات الاستعمارية بكونه الشيوعي الأخطر المحرض على الدولة الفرنسية الاستعمارية بتعليمات من الأممية الثالثة في موسكو، وعلاقته الغامضة مع الفوضويين والمنادي جهارا نهارا باستقلال تونس والمعروف بشتمه للمقيم العام الفرنسي و الموصوم بالخائن بلده, بلده الاستعماري و رسالته الحضارية المقدسة .

محمد علي الحامي المشتبه فيه أصلا من السلطات الفرنسية لغموض مرجع مقدمه سواء المقدم التركي وعلاقته بوزير الحربية العثماني أنور باشا وزعيم حركة الاتحاد والترقي و المنتسب لجمعية تركيا الفتاة المعادية محوريا لفرنسا, و علاقته الغامضة بالأمير الدرزي شكيب أرسلان و تردد محمد علي على “النادي الشرقي” و نشاطه الإسلامي الغامض في برلين إلى جانب مقدمه من معقل الأفكار الثورات الأوروبية برلين ومناخات الثورة الاشتراكية السبارتاكية المغدورة بقيادة كارل لايبنيخت Karl Liebknecht وروزا لوكسمبورغ Rosa Luxembourg .

محمد علي الحامي المشتبه فيه أصلا في علاقاته الغامضة بالشيوعيين والفوضويين وهو المتجرئ على تأسيس أول تنظيم نقابي تونسي مستقل و متمايز عن النقابات الفرنسية و المنسلخ أصلا عن الكونفدرالية العامة للشغل الفرنسية CGT . تنظيم عمالي تونسي غامض الأهداف سياسيا في نظر السلطات الاستعمارية بعكس الأحزاب السياسية التونسية المهادنة كالحزب الدستوري (القديم) والحزب الإصلاحي (حسن القلاتي) اللاهثة وراء المفاوضات السلمية مع المستعمر.

إضراب عمال الرصيف ببنزرت 1924

مختار العياري، أحد أهم النقابيين الرواد المساهمين في تأسيس جامعة عموم العملة التونسية إلى جانب الطاهر الحداد و أحمد توفيق المدني في 01 نوفمبر 1924 في إحدى القاعات بنهج الجزيرة . “العياري” الشيوعي المبكر، والنقابي المتمرس والخبير بتباين الاشتراكيين والشيوعيين، المولود في رأس الطابية وسليل أولاد عيار وربعهم الشاهق في مكثر في مرتفعات الشمال الغربي. وحضوره هنا في هذه الصورة باعتباره متورطا في التحريض على الإضرابات. محارب قديم في الجيش الفرنسي في الحرب الكبرى. نقابي في الترامينو (اشتغل مراقبا في شركة الترامواي) منخرط في الاتحاد الإقليمي للكونفدرالية العامة للشغل CGT ثم في الكونفدرالية العامة للشغل الموحد CGTU. مشرف على الجرائد الشيوعية الناطقة بالعربية و المندثرة سريعا (حبيب الأمة، حبيب الشعب، المظلوم) , منظم إضرابات متمرس (إضراب شركة الترامواي، إضراب عمال الرصيف بتونس، إضراب عمال الرصيف ببنزرت) مبعوث الدعاية المحنك لجامعة عموم العملة التونسية في التحريض و التعبئة, المتدرب على الطرد و المحاكمات… تلك هي الصورة العامة للماثلين أمام المحكمة و التي انتهت بنفيهم جميعا, محمد علي الحامي إلى تركيا و مختار العياري إلى مصر و فينيدوري إلى إيطاليا. والأهم من كل ذلك تنتهي واقعة هذه الصورة بالقضاء على أول إتحاد نقابي للعملة التونسيين لحما ودما.

ثالثا: أصعب ديكريبتاج في الصورة الفوتوغرافية حسب رأيي هو الصورة الجماعية (Photo de groupe)، أي صورة أفراد يتهيؤون لأخذ صورة جماعية. كل صورة جماعية فيها شحنة من التمسرح إما من الموضوع وهو يدرك أنه موضوع للصورة فيحاول هذا الموضوع التهيؤ للعدسة ويقلل بذلك من تلقائيته وقد يبالغ في فعل “التهيئية ” (La pose)، أو أن تمارس ذات المصور على الموضوع نوعا من الأسلوب التمسرحي وفق تصوري ماقبلي في ذهنه فينزع عن الصورة طابعها البريء أو طابعها الموضعي (In situ) بالمعنى العام للموضعية (Situationnisme) العامة.

رولان بارت ولغز الصورة الشمسية

ومن عراقيل قراءة الصورة الجماعية أيضا هو مشكلة التشتت، أي تشتت الذات القارئة التي تواجه معرض الوجوه المعروضة داخل الإطار إذا ما اعتبرنا الصورة الجماعية عموما هي بورتريهات فوتوغرافية مجموعة أو مضمومة في إطار فوتوغرافي واحد. وفي حالة مواجهة العين القارئة للبورتريه أو للبورتريهات في الصورة الجماعية فإن أصعب شيء في القراءة هو مواجهة نظرات الشخوص الماثلة في الصورة، ودون ذلك فإن كل ما تبقى من تفاصيل يمكن فك تشفيرها في سياق القراءة العامة للمشهد. ذلك أنه وضمن الثالوث المركب للعلاقة بين الفوتوغرافيا والتلقي التي يضبطها رولان بارت Roland Barthes في”الغرفة المضيئة” (La chambre claire) بين الأوبيراتور (Operator) والسبكتروم (Spectrum) والسبكتاتور (Spectator) فإن ما يعسر التعامل معه في هذا الثالوث هو هذا السبكتروم, والذي يسميه بارت ” الأيدولون ” (Eidelon) أي هذا الطيف أو الشبح وهو بمثابة المرجع الدال على الذات الحقيقية الغائبة المصورة. ولكون هذا السبكتروم يحمل في طياته اثيمولوجيا أثر معنى الفرجة (Spectacle) فإن بارت يشير إلى حقيقة مرعبة وهو عودة الموت من خلاله في الفوتوغرافيا أي في الفوتوغرافيا كلها. وهو ما يعني أن نظرة الذين رحلوا في البورتريهات لا تكاد تخرج من نطاق ذلك اللوم الموجه للمتفرج. لوم له علاقة بالنسيان وما يكتنفه من ندم نلمسه دائما حين نشاهد عيون الذين غادرونا وهم يرمقوننا بتلك النظرة الثابتة والباردة واللوّامة في تلك الصور. وهذا ما يحدث دائما وكأنها نظرات استغاثة.

لكن هذه النظرة قد لا تكون نظرة لوّامة بالضرورة خاصة حين يتحول هذا السبيكتروم إلى متفرج بدوره فنتقلب العلاقة ونصبح نحن محل الفرجة إذا ما ارتبط ذلك بدرجة الوعي التاريخي تجاه تلك النظرة وما يحصل عادة مع تلك الصور الأنطولوجية في ألبوم الذاكرة التاريخية لأمة ما، وهو ما ينطبق على هذه الصورة بالذات التي تؤرخ لمحاكمة زعيم الحركة النقابية محمد علي الحامي. هذه الصورة الفريدة التي لا تلتزم باستعادة ” الأيدولون” لفكرة الموت والغياب بقدر ما تستدعي الأيدولون بوصفه عنفا فكريا للشهادة التاريخية وحرونها.

التحديق في نظرات الشخوص في الفوتوغرافيا من “أعذب” المهام التي يواجهها المتفرج. الأعذب هنا من العذوبة والعذاب، العذوبة هنا كامنة في كل ما تبقى من ألق تلك النظرة في لحظة ارتسامها في الغرفة الداخلية للعدسة وانطباعها على “البيليكول”، والألق هو تلك الغرابة الغامضة التي تكتنف النظرة نفسها بوصفها “أنطولوجيا” أي ذاك الوجود الغامض والماكر لصاحب النظرة نفسها. والعذاب كامن في مواجهة تلك النظرة الطيفية الشبح، نظرة السبكتروم التي تظل تنظر إلينا من عالم آخر قد تلاشى تماما دون عودة لكنه يصر على المقاومة للبقاء خاصة إذا كان أصحاب هذه النظرة قد رحلوا عن الوجود وباتوا إذا كنا نعرفهم يعاتبوننا عن إثم قد اقترفناه , ربما إثم إعادة التحديق فيهم .

رابعا: ولكن لنعد إلى “الموضعية”. فإنه إذا كان التيار الطبيعي مع إيميل زولا في الأدب و أندريه أنطوان في المسرح مدينا للفوتوغرافينا ، فإن ما ننساه دائما كون الفوتوغرافيا هي واضعة حجر الأساس مبكرا قبل ظهور تيار “الموضعية” المعلن عن نفسه عام 1957 كتيار فكري احتجاجي جمالي وسياسي. الفوتوغرافيا أكبر فن فاضح بطبيعته لمجتمع الفرجة و لحياته اليومية أو المجتمع “الفرجوي – البضائعي ” على حد صياغة غي ديبور Guy Debord. كل ما كانت الصورة “في الموضع” كانت أكثر دلالة على ما تروم ولا تروم أن تكشفه. لكن أهمية الصورة الفوتوغرافية ومن منطلق الوعي التاريخي وضمن التفكير الموضعي كونها تمنح للقارئ إمكانية التفتيش في هذه الفرجة البضاعة.

وإذا كانت كل صورة فوتوغرافية هي بمثابة البضاعة القابلة للتصريف، فهذه الصورة التي أرادها صاحبها وثيقة للسلطة الاستعمارية ولاستعمالاته المختلفة، تعود اليوم لتكون مادة لإعادة قراءة التاريخ، تاريخ فترة حاسمة من التاريخ التونسي المعاصر و تعديل و تنسيب كتابته. وإثراء كتابة التفاصيل فيه. وكتابة التفاصيل هي الأهم في رأيي عند كتابة التاريخ، وأعتقد جازما أن جزءا من القراءة الأيقونية – التي لا ندعي القدرة على إتقانها – تساهم بشكل مّا في كتابة هذا التاريخ اللامرئي رغم اعتماده على الصورة الفوتوغرافية موضع الرؤية كلها … الصورة الفوتوغرافية أهميتها في ما هو غير فوتوغرافي أي لا مرئي. حول الشغف بـ بالفوتوغرافيا يُذكّر جيروم ثيلو Jérome Thélot في كتابه “نقد العقل الفوتوغرافي” برواية ” الأبله” لدوستويفسكي Dostoïevski بسؤال إحدى الشخصيات حين يتساءل : ” هل من الممكن إدراك في الصورة ما هو ليس بصورة ؟”. وكأن الشغف بالفوتوغرافيا لا يجد معنى له إلا في التورية عما تحجبه الفوتوغرافيا لأنها لا تستطيع إلتقاطه وتسجيله أو طبعه في الإطار.

مختار العياري

إذن ثمة ما يُرى وما لا يرى في هذه الصورة الفوتوغرافية وما لا يرى ليس بالضرورة غائبا عن الإطار ولكنه لا يكشف عن نفسه بمجرد الرؤية، رؤية السطح الفوتوغرافي داخل الكادر. وإذا كان من نقد موضعي يمكن إجراؤه فهو البحث عما لا يُرى في كل صورة فوتوغرافية جديرة بالقراءة.

خامسا: وضمن هذا الذي لا يرى، لا يمكن إلا القيام بمسح لسطح الكادر في هذه الصورة. والظاهر أن الصورة قائمة بالأساس في نظر ملتقطها فيكتور سباغ على شخصية فينودوري المتألق في قلب الكادر بعصاه الموسوية (إكسسوار الكاريزما) وسيجارته. والناظر للصورة يدرك مناخ التواطؤ بين المصور وبين فينيدوري التي لا تخفي العلاقة ما بين الرجلين. فهو النجم بلا منازع ببياض سحنته وهيئته الأرستقراطية المخاتلة وحضوره في الصورة بمثابة البؤرة التي يتكوكب حولها كل شيء، خاصة أنه يتعمد النظر ويدرك أنه نجم هذه الصورة. والتواطؤ مع المصور مرتسم على وجه البوليس الجالس أيضا إلى جانب فينيدوري وهو يتعمد مد قدميه اليمنى كحاجز صاد لبقية الجالسين إمعانا في ابراز سلطته الزجرية والتي يعبر عنها البوليس الواقف بشكل حازم بوقفته المضحكة تلك ووضع يديه على حاجز المرافعة الخشبي بوصفه سيدا للمكان وكأنه في ذلك يزاحم الواقفين إلى جانبه ليكون في قلب مجال عدسة الكاميرا.

المحامي الأجنبي الواقف وراء محمد علي الحامي في كامل وعيه بالصورة الجماعية يختار هيئة انحناء الجسد والتفاتة الوجه للعدسة ليخلد حضوره التاريخي المتمايز عن الآخرين، المحامي الثاني غير منتبه للكاميرا وبجانبه المحامي التونسي (لا ندري من هو من بين المترافعين، فرحات؟ أو جميل؟ أو الصافي؟) يلقي بنظره فقط إلى عدسة المصور دون أي قصد ليكون في الصورة لكن العدسة تسجل “فخامته” واعتداده و “وهرته” الظاهرة بلباسه التقليدي. مختار العياري الجالس على يسار محمد علي ينظر بعينيه الشهلاوين إلى العدسة برصانة الرجل الهادئ الذي أنضجته التجاريب وكأنه بهيئته تلك يروض العدسة لتلتقط أجمل ما فيه وهو التواضع والشعور بالرضى عن النفس والكرامة.

ولكن الشخص الذي يكاد ينفلت من المشهد كله هو محمد على الحامي. كأنه ثقب أسود يمتص الصورة كلها، امتصاص سالب لقوّة جوّانية كامنة فيه، لها علاقة بهالة غموض لا مرئية محيطة. نظرته للعدسة هي الثقب الأسود الذي يبتلع المشهد كله رغم خدمة سحنته الداكنة للبياض بحكم التباين القائم بينه وبين نظارة وجه فينيدوري الذي يعكس الضوء كله والنصاعة التعديلية الهادئة لمختار العياري البوذية. صورة محمد علي الحامي مربكة إلى حدود قصية في الغموض والتكتم. وجهه الملوح بالشمس وندبة خدّه الأيمن تكاد تنقض على الناظر له من العدسة. تحفزه الصارخ بصمت كأنه يتنفس كل الحقد وكل الغيظ وكل الشعور بالانكسار والخيبة التي لا يدرك ممراتها إلا هو. مرارة يحسن محمد علي تكثيفها في هذه النظرة، نظرة الفهد الأسود الضاري. نحافة جسده نحافة جارحة ومسلولة كشفرة لتمزيق الآخرين، تمزيق الأجساد المكتنزة والشبعى المتواجدة من حوله. وجهه ناتئ العظام يكتنز كل الرسائل البليغة للشعب المتضوّر تحت نير الاستغلال والقهر والحاجة.

محمد علي الحامي

نحافة محمد علي الحامي بلاغة في الفصاحة، فصاحة الصمت المطالب بالحق. اتقاد عينيه بتلك الطريقة الغامضة وهو ينظر للكاميرا حشدٌ من صرخات الاحتجاج والعصيان العام في الشوارع. حزنه البادي حزن الرجل المغدور والمخدوع من قلة السند وانكسار الظهير ومهادنته للمستعمر.

دكنة بشرته بمقابل البياض المنتشر في وجوه من حوله توقيع للغربة في الوطن رغم التأصل في ثنايا الحدب والصوب أي الجنوب منقوعا ككسرة خبز خشن في زيت مضيء. دكنة بشرته الاستثنائية في المشهد قاعدة المتربص بالعصيان وبالثبات وبالمجاهدة. أنها دكنة سُمرة , سُمرة زُرقة , زُرقة أولئك “الآفاقيين” المحترقين بالشمس في المنافي الداخلية الذين تسيرهم الأقدار في اجتراح المفاصل للحقب التاريخية حين يكونون الحجارة الزرقاء التي تُحدثُ القطائع في التاريخ , زرقٌ كحجارة الوادي الباقية على حالها في سرير الوادي بعد مرور فيضان الأحداث . سُمرة سحنة محمد علي الحامي سُمرة عاوية لو تناولها عبد الرحمان الكافي في ملزوماته لكان مطلعها:

” لزرق يا حجار الواد …حار فيك الطحان والقواد “

… سمرة محمد علي الحامي سمرة أصلية أوتوكتونية تكاد تكون نفس السمرة أو الزرقة التي نراها في سحن محاربي الهنود الحمر من الآباش و الشيروكي , سمرة “الزنديانات ” في الغرب الأمريكي البعيد حيث الأحلام يصطادها النائمون وهو منتبهين بشباك الريش. سمرة متناقضة تماما التناقض الصارخ مع الأناقة المحتشمة، نصاعة القميص وتأنق ربطة العنق من بقايا الهندام البرليني. ثمة استنفار هادئ على وجه محمد علي، استنفار محير وملغز لا تلطف منه إلا طريقة وضع اليد على الركبة بتؤدة بذات الأنامل الدقيقة التي لم تلامس مفاتيح البيانو. اعتمار الكبوس التونسي على رأسه بتلك الطريقة ” الفانتازية ” استفزازية لنواميس تقاليد أكابر الحاضرة المولعين بالشاشية المجيدي وألوانها القرمزية المخصوصة، هي طريقة تستبطن عادات التزيّي عند أبناء الشعب من عملة الرصيف و الفلاحين و الخماسة و الزوافرية و الزواولة.

سادسا : شغف الفوتوغرافيا هو ما لا يرى. أي ما لا يكشف عنه إطار الصورة. و اجتنابا لخوارق الاستسرارات الطيفية وفقه الخوارق يكون الشغف هنا تمرينا في توسيع الرؤية خارج اطار الصورة الفوتوغرافية, حيث رأس محمد علي الحامي كالمرجل مزدحم بالتجربة البرلينية المتلاطمة ودروس الاقتصاد السياسي وشهادات الثورة السبارتكية و أحاديث “النادي الشرقي “في رؤى المنتسبين لتركيا الفتاة و غلالات الفكر الإصلاحي والاستنهاضي و تشويش رؤى مشروع الأممية الإسلامية و الحذر من التورط في أحضان التنازع الاشتراكي والشيوعي و الفوضوي في النضال النقابي …كل هذا الازدحام ما يفسر استنفار الرجل في نظرته الثاقبة ويدفعه نحو ” التوحش التونسي ” المتعالي على الهزيمة و الخسارات . لكأن حشد هذه الصور المزدحمة يكتنفها ضوء الصحراء ويمحوها كسرابات مصير مؤجل قد لا تقتنصه عدسة الكاميرا.

الشابي
الطاهر الحداد

في الخارج سيتوافد الشهود من بني جلدته سيدلون بشهاداتهم ضد محمد علي الحامي ورفاقه فينيدوري ومختار العياري. في الخارج أيضا الطاهر الحداد سيكتب عن حلم محمد علي الحامي وعن جامعة عموم العملة التونسية حتى لا يموت الحلم , في الخارج أيضا أبو القاسم الشابي يمتح الشعر نازلا عليه كالرحيق العذب من أعالي مراقد الآلهة و هو يفكر في لبنات بيانه في “الخيال الشعري عند العرب ” رغم عنت المتزمتين .

في الخارج أيضا يشرع الحبيب بورقيبة دراسته الجامعية في باريس تاركا ذكرى قبلة المسك على خشبة المسرح. في الخارج أيضا لا ينسى الناس جوائحهم وفواجعهم آخرها في اعدام الدغباجي سيد الرجالة صاحب العركة المُرّة. في الخارج أيضا تقيم السلطات الاستعمارية تمثالا للكاردينال لافيجري في مدخل المدينة العربية في باب بحر تمهيدا للمؤتمر الأفخارستي الذي سيقام بعد خمس سنوات، في الخارج أيضا . في الخارج أيضا سيواصل روبير لوزون Robert Louzon معركته مع نظام بلاده مدافعا عن القضية التونسية و الحركة العمالية التونسية في كراسات “الثورة البروليتارية “.

في الخارج أيضا تلميذ صغير في قرقنة في مدرسة القلالين اسمه فرحات حشاد يجتهد ويتهيأ لمصير عظيم. في الخارج أيضا يكور الخطاف ملهما كويرات الطين اللزج ليبني أعشاشه في أركان الدور وتحت القراميد. في الخارج أيضا هناك في الجنوب أطفال سمر يقطفون “اليازول”, و هناك في الشمال القصي أطفال يعرفون منابت الخشخاش في حقول الربيع و مخابئ العسل البري في القواقع … و في الخارج هناك و هناك عرق وحنق ودمع ودم ورعاف وشعر أخضر يهمهم به طفل في السهوب السرية بين الكاف و سليانة جندوبة اسمه عبد الرحماني الكافي … و في الخارج الموعود في بهرة الضوء بعد ثلاث سنوات في الصحراء، الصحراء العربية الحجازية بين مكة و جدة, سيرى محمد علي الحامي حشودا من الصور بعين الفهد الضاري و هو يسلم الروح … المتأمل في نظرات عيون العياري و الحامي و فينيدوري ليست نظرات غياب لموتى إنها شيء آخر فوق الشهادة بقليل .

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

صلوات فيروز… أو درب من مروا إلى السماء

نشرت

في

أكرم الريّس*

نشأت نهاد وديع حداد (فيروز) في بيت متدين ومحافظ. وكان لهذه النشأة أثرها في حياتها في ما بعد. منذ صغرها والغناء لا يفارقها: في البيت، في المدرسة، في حقول الطفولة في قرية الدبية (الشوف) خلال عطلة الصيف التي كانت تمضيها مع جدتها.

سنبحر في هذه المقالة صوب هذه المرأة المكتنزة روحيا في صلواتها وغنائها، وسنحاول ان نقارب هذا “الصوت الداخلي” (انسي الحاج) الذي يتجدد ويحفر عميقا، عميقا فينا مع تفتح كل ربيع وتبسّم شجر اللوز.

تعلمت فيروز على الاخوين محمد واحمد فليفل اصول الانشاد والتجويد القرآني، وكانت لا تزال طالبة في مدرسة حوض الولاية في منطقة زقاق البلاط. يقول الحاج محمد فليفل (1899 – 1985) في مقابلة تعود الى العام 1980: “قدمتها في دار الايتام الاسلامية (المقاصد) لتنشد “يا محمد ارفع اللواء” في ذكرى تأسيس الدار. كما اني علمتها قراءة القرآن الكريم ومن خلاله ضبطت مخارج الكلمات عندها. لماذا يتمتع صوتها بهذا الجمال؟ لأنني درستها فن الالقاء عبر قراءة القرآن الكريم. لم اكن اعلمها فقط الموسيقى، بل كنت ادرّبها على النطق السليم. فيروز اداؤها اسلامي مائة في المائة”.

كان دور محمد فليفل مركزيا ليس فقط في اقناع والد نهاد بالتحاقها بالكونسرفاتوار لمدة اربع سنوات وفي تكوينها الفني كما سلف ذكره، بل وكذلك من خلال تقديمها في الاذاعة اللبنانية حيث سمع صوتها للمرة الاولى حليم الرومي، مدير القسم الموسيقي آنذاك.

ويروي من عاصروا تلك المرحلة عن ملامح الخجل في طباعها وانضباطها اللافت في الغناء وتنفيذ تعليمات استاذها محمد فليفل. كما كانوا يجدونها مرارا تصلي في الاذاعة بانتظار دورها في الغناء قرب غرفة التسجيل. وقد تطور هذا المسلك ولازمها في مراحل الشهرة اللاحقة واصبح الصمت والصلاة دربها قبل الظهور على المسرح. وتقول فيروز عن نفسها في حديث صحافي من العام 1994 انها “راهبة في معبد الفن”. اذن الفن عندها رسالة مقدسة والصوت نعمة.

وتابعت فيروز رحلة الصوت بلقائها التاريخي مع الاخوين عاصي ومنصور الرحباني خلال فترة عملها كمرددة ومغنية في الاذاعة اللبنانية ووضعت صوتها بتصرفهم متنقلة بين انواع الغناء وما اكتسبوه من خبرة ومعارف موسيقية من برتراند روبيار والاب بولس الاشقر (1882 – 1952) اللذين التقياه في كنيسة مار الياس في انطلياس… “ندهنا من طفولتنا التائهة”، يقول عاصي الرحباني (1923 – 1986) عن الاب الاشقر في حفل احياء ذكراه عام 1963، “وعلمنا الموسيقى وكنا يومها نجهل ما الموسيقى. اخبرنا عن الفن وكنا نجهله، ولقننا الدخول الى وديان النفس والاماكن العميقة في الضمير… علمنا ان الفرحة الكبرى هي فرحة الانسان بولادة الجمال”.

ومن بواكير اعمال هذه الفترة من الخمسينات ترانيم مثل “تلج تلج”، “أؤمن”، “المجد لله في الاعالي” واذا شهدت كنيسة مار الياس وساحتها في انطلياس بدايات الاخوين رحباني، كانت ايضا انطلاقة مسيرة الترتيل في مناسبة الجمعة العظيمة وتوهج “وعد الصوت والغنية” – فيروز – بلقاء روحي شبه سنوي استمر الى اواخر السبعينات من القرن الماضي الى ان اصبح والصوت “صرخة في الضمائر” والاغنية “عواصف وهدير”.

شهدت مرحلة الستينات اعمالا غنائية ومسرحية لفيروز والاخوين رحباني حملت الكثير من معاني واعمال الصلاة: الصلاة للاطفال (يارا، اقول لطفلتي، بدي خبركن، بكوخنا يبني…)، الصلاة للحبيب (لا انت حبيبي، شايف البحر شو كبير…) الصلاة للناس، لكل الناس وين ما كان (ايام العيد، حصاد ورماح…) الصلاة للأرض والوطن (وعدي الك، زهرة المدائن، بعلبك…)، التضرع لله وذكر رموزه (ساعدني، ضوي يا هالقنديل، يا ساكن العالي، بيتي انا بيتك…). ومن المحطات الاساسية كانت اغنية “خذني” من مهرجان البعلبكية عام 1961 حيث ركعت فيروز على “ادراج بعلبك” امام اكثر من خمسة آلاف مشاهد ورفعت يداها للصلاة منشدة “إركع تحت احلى سما وصلي”. قد تكون هذه الاغنية من اكثر الاغاني التي ادتها فيروز في مراحل متلاحقة في حياتها ورحلاتها الفنية في مختلف الدول. نذكر منها الولايات المتحدة (1971، 1981، 1987 1999)، انكلترا (1961، 1978، 1986 حينما قدمت بصيغة معدلة وعلى البيانو)، فرنسا (1979، 1988)، استراليا (1984)، البرازيل (1962)، الامارات (1979، 1985) البحرين (1987)، مصر (1976) كما في بعلبك (1973) الخ… ونذكر من هذه المرحلة ايضا زيارة فيروز والاخوين رحباني عام 1964 الى القدس “مدينة الصلاة ودرب من مروا الى السماء”، وهي المرة الوحيدة التي رتلت فيها فيروز هناك وقد تلازمت هذه الزيارة مع قدوم البابا الى المدينة. واهداها الناس مزهرية، فكانت اغنية “القدس العتيقة”.

توالت الاعمال مع اصدار اسطوانتي الميلاد وترانيم الجمعة العظيمة، ومع حلقات تلفزيونية خصصت لتلك المناسبات مثل “هدايا العيد” و”القدس في البال” وحفلات غنائية حيث قدمت فيروز عام 1966 في الكويت قصيدة “غنيت مكة” من شعر سعيد عقل.

الناظر الى فيروز يرى فيها ابعد من مطربة، واكثر من صوت، يرى روحا شفافة مشتعلة كبيرة. كل هذا وجده عاصي الرحباني فيها وفي صوتها فكانت اعمالها معه لها مضمون مختلف ومغاير، وحضور هو حضور صوتها وشخصيتها اللذين فرضا اعمالا تشبه فيروز وصورتها. فيروز صلت على المسرح، حملت قضايا كبيرة وناصرت الحق. هكذا رآها عاصي “الفضاء الصوتي الذي غمره بشعره ولحنه وبأعماله المسرحية” (بول شاوول)، ولذلك “المسرح الرحباني هو مسرح فيروز بالدرجة الاولى. بدونها كانت هذه الاعمال ستفقد الكثير من وهجها ورهبتها. بدونها يلبس المسرح الرحباني وجها مختلفا عما هو عليه. وفرادة المدرسة الرحبانية هي وصل الحب بالايمان، وهذا ينتج منه حكما العدل والخير والجمال” (نبيل ابو مراد).

درب الحلم الجميل ما لبث ان اصطدم بعدة احداث شخصية وعامة تلاحقت منذ بداية السبعينات وما كان مرض عاصي المفاجىء في 26 ايلول 1972 الا بداية مرحلة اخرى من الجراحات والتخطي لا يقوى عليها الا من سلك درب الروح والايمان. وما يروى عن فيروز ردة فعلها العفوية عندما دخل عليها الشاعر سعيد عقل ليخبرها بمرض عاصي في ذاك اليوم وكانت في غرفتها بالمستشفى بسبب الارهاق من العمل المضني المتواصل. في تلك اللحظة، التفتت الى السماء وهي تقول: “يا ربي اذا شاءت عنايتك ان يعود عاصي للحياة مرة ثانية، فانني سأنذر نفسي للصلاة حتى آخر لحظة من حياتي”. هي التي لم تفارقها الصلاة منذ كانت طفلة تشترك في فرقة الاخوين فليفل كمرددة، لم تعلم انها ستوصف يوما بالام الحزينة، وهي ترتل آلامها في الجمعة العظيمة بعد وفاة ابنتها ليال عام 1988.

واذا سرقت الحرب أحلام الوطن وتركت الخيبة والفراغ، واذا ابتعدت فيروز عن مسرح الغناء في لبنان خلال هذه المرحلة، بقي صوتها ملجأ، بل وازداد حضوره في الوجدان العام. أضحى “تراثاً روحياً” و”صوت قيامة لبنان” يحمل معاني الرجاء والخلاص للناس ويجمعهم رغم العوائق. غريب توهج هذه الانسانة، وفريد تعلق الناس بفنها واعمالها التي توحدت مع سيرتها رغم غيابها القسري. اصبحت رمزاً “بقوة الحب وبإجماع المتصارعين المتضادين”. واذا غنّت النذر في العام 1966 “أنا حمّلوني هموم كتار… بندُر صوتي حياتي وموتي لمجد لبنان”، فإنها هي التي حققته “بفضل مواقف عديدة اتخذتها بصمت وبلا اعلان. بفضل تضحيات وضبط للنفس وترفّع ووفاء لكل ما بدا لها جوهرياً” (خالدة السعيد).

في هذه الفترة الممتدة من أوائل الثمانينات الى النصف الاول من التسعينات، اقتصرت اطلالات فيروز في لبنان على احياء احتفالات الجمعة العظيمة. وان كان مركز تلك الاطلالات قبل الحرب كنيسة مار الياس في انطلياس، تميزت هذه المرحلة باختيار فيروز عدة كنائس في مناطق متعددة من لبنان تتبع تارة الطقس البيزنطي وتارة أخرى الطقس الماروني. وهكذا ابتدأت رحلتها الثانية من بازليك حريصا عام 1982 الى كنيسة مار الياس انطلياس (الجديدة) عام 1988، كنيسة الوردية في الحمراء في بيروت الحزينة عام 1990 (وقد رافقها على الارغن زياد الرحباني الذي قام لاحقاً في عام 2001 بإعداد موسيقي جديد لترتيلة “يا مريم البكر”) ومنها الى دير البلمند عام 1992. وكانت هذه المحطة من المحطات المهمة، وذلك لانها المرة الاولى التي ترتل فيها فيروز في دير ارثوذكسي جامعة بتآلف الطقسين البيزنطي والماروني. كما نذكر محطة أخرى من هذه المرحلة عام 1986 حين انشدت فيروز في كنيسة سانت مارغريت في لندن مع أوركسترا انكليزية ترانيم ميلادية سريانية، بالاضافة الى مجموعة مختارة من الترانيم والاغاني الميلادية باللغات العربية واللاتينية والانكليزية .

وانتهت الحرب. واختارت فيروز في رحلتها الثالثة أن ترتل في كنائس كانت قد تضررت في زمن الحرب وهي قيد الترميم. كأنها مثل الشعراء التموزيين تنشد انبعاث الكنائس وعودة الحياة اليها مثل قيامة المسيح بعد الموت. ها هي كاتدرائية مار جرجس في اللعازارية (1995) المليئة بالثقوب والفجوات وذات السقف المهدم تحتضن صلوات فيروز الصاعدة من ركام النفس والحرب مباشرة الى السماء… “يا رب القوات كن معنا، فإنه ليس لنا في الاحزان معين سواك، يا رب ارحمنا”… “اسمع صوتي، لا تحجب أذنك عن استغاثني”. كذلك في كنيسة مار نقولا في الاشرفية (1997)، كنيسة مار لويس للآباء الكبوشيين (2000)، كنيسة مار جاورجيوس للروم الارثوذكس (2001) حيث تم تصوير ترانيم القيامة التي تقدمها للمرة الاولى بعد الحرب.

واذا كان عاصي الحلم الاول والوطن الاول، جاء لقاء فيروز وزياد الرحباني ليطرح اسئلة الحداثة الثانية وليدخل في حميمات وتفاصيل الحياة اليومية والمباشرة، وليقدم لنا “فيروز الثانية” (الياس خوري)، تلك المرأة الغارقة في عبثية العلاقات. وما بين الحلم الاول والحداثة الثانية، بقيت “الأم الحزينة” تتلألأ بالفرح العظيم وبقي صوتها “يتموج صاعداً نحو أبراج الروح”. كيف لا وفيه “يتداخل ويتحاور ملاك يرتل وطفل عفريت يلعب ومراهقة تتفتح للحب وعاشقة للمجهول الذي لا ينجلي ولا يحضر وشاعر يحلم بالسفر البعيد” (خالدة السعيد)

فيروز قالت كلمة وأية كلمة! جعلت الصلاة تقليداً وموعداً ينتظر. هي “قصة الموعودين”، تحمل الايام في راحتيها وتحمل دروب الحلم والروح في صوتها.

طقس فيروز هو طقسنا وصلاتها صلاتنا وغناؤها غناؤنا. ونحن وراءها في كنيسة ومعبد. في مسرح وإذاعة.

يا سيد العطايا، يا رب، إحمها.

ـ عن “النهار” ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحث من لبنان

أكمل القراءة

جلـ ... منار

نجم عالمي اسمه… عمر الشريف

نشرت

في

محمد شريف*

لم تكن من عاداتي يومًا ما أنْ أُهرول ناحية أي فنان لأصافحه وأُعبِّر عن إعجابي به أو ألتقط معه صورةً تذكاريةً، رغم أنَّ الظروف سنحتْ لي – بحكم اهتمامي بالسينما ودراستي لها – برؤية نجوم كبار مِمَّن أُحبهم، مثل نور الشريف وغيره.

إلاّ أنَّ الوضع تغيَّر تمامًا عندما رأيتُ النجم المصري العالمي عمر الشريف وهو في طريقه لأحد الأستوديوهات لتصوير بعض المشاهد من مسلسل “حنين وحنان” الذي عُرِضَ على شاشة التلفاز في عام 2007. كنتُ قد نزلتُ للتَّوّ من مبنى المركز القومي للسينما وسلكتُ طريقي يسارًا لتمرَّ بجانبي سيارة فرنسية، موديلها قديم من نوع بيجو، خطف نظري شخص بداخلها لم أتعرَّفْ عليه من النظرة الأولى، ولكنني توقفتُ فجأة والتفتُّ إلى الخلف لأرى السيارة وهي تتوقف وينزل منها سائق يفتح الباب الخلفي لذلك الشخص الذي لم يكن سوى النجم المصري العالمي عمر الشريف.

نظرتُ ناحيته مشدوهًا محملقًا وأنا أكاد لا أُصدِّق نفسي، وتمنيتُ لو ركضتُ ناحيته وصافحته وشكرته على الأوقات الممتعة التي قضيتها وأنا أشاهد أفلامه، ولكنني لم أفعل! فقد منعني خجلي من التوجه إليه، واكتفيتُ فقط بمتابعته بنظري حتى دخل الأستوديو واختفى تاركًا إياي خلفه، أقف حائرًا وأنا ألوم نفسي وأُفكِّر في انتظاره حتى يخرج بعد ساعات التصوير الطويلة لأصافحه، ولكنني لم أفعل! انصرفتُ وأنا أتلفَّتُ خلفي من حين لآخر على أملٍ أن أراه مرةً أخرى.

وصلتُ إلى منزلي وصورته تأبى مغادرة رأسي، وأخذتُ أتساءل عن سبب انجذابي ناحيته قبل أنْ أعرف أنه عمر الشريف، ومع مرور الوقت أدركتُ ذلك التأثير الذي يُحْدِثه ذلك النجم الكبير الذي- ولا شك – وُلد نجمًا كما قال عنه بعض الفنانين.

لا شك في أنَّ السينما أنجبتْ لنا ممثلين أكثر وسامة من عمر الشريف، ومنهم مَن حقَّقَ نجاحًا جماهيريًّا كاسحًا، ولكن لم يمتلك أي منهم تلك الجاذبية؛ فإذا ما أردنا أن نَصِفَ عمر الشريف بصفة واحدة، أعتقد أننا سنقول إنه جذاب وليس وسيمًا؛ فهو مثل نجم لامع في السماء نتجه إليه بأبصارنا ونعرف أنَّ الوصول إليه أمر بالغ الصعوبة.

مرَّتِ السنوات وتزايد اهتمامي بالسينما، وبدأتُ أُشاهد الأفلام بتمعُّن وأتتبَّع مسيرة بعض الفنانين في محاولةٍ للفهم والتعلُّمِ من تجاربهم، من نجاحاتهم وإخفاقاتهم، وما زال عمر الشريف هو نجمي المفضل رغم رؤيتي لفنانين أكثر.

وبسبب حبي لهذا النجم الكبير كنتُ أَعُدُّ أي فنان يشاركه أي عمل فني محظوظًا، ولكن بدأتْ نظرتي تتغيَّر عندما أخذ الممثل خالد النبوي خطوة في طريق العالمية بتقديمه لدورٍ صغيرٍ في الفيلم الأمريكي “مملكة الجنة” عام 2005، وهو الذي بدأ مشواره السينمائي بدورٍ صغيرٍ مع عمر الشريف في فيلم “المواطن مصري” عام 1991.

شاهدتُ خالد النبوي في برنامج تلفزيوني وهو يحكي عن فيلم “المواطن مصري”، وكيف تمَّ اختياره بسبب الشبه بينه وبين عمر الشريف، ويبدو أنَّ خالد النبوي وقع في فخ جاذبية عمر الشريف وانبهر به أكثر من اللازم وتمنَّى أنْ يكون مثله؛ فبعد أنْ جاءت له الفرصة العالمية اعتقد أنها بداية الطريق لهوليوود؛ فظهر مع الإعلامي محمود سعد في برنامجه، وبعدما سأله سعد عن اسم حبيبة عطيل، قال النبوي: “اسمها ديذديمونة، اللي هي انتو بتقولوا عليها ديدمونة!”.

ليُفاجأ محمود سعد ويقول له: “إحنا مين؟!”.

يبدو أنَّ خالد النبوي كان يُودِّع الجمهور المصري ويؤهِّب نفسه للتعامل مع جمهوره الجديد في السينما العالمية، ولكنه لم يُحقِّقْ نجاحًا يُذكر؛ فلم يَصل لجمهوره الجديد، ولم ينجح في كسب الجمهور المصري الذي تعامل معه بطريقة أنا وأنتم، وليس بطريقة “نحن”.

في اعتقادي أنَّ تلك الأزمة لم تواجه خالد النبوي فقط، بل تكرَّر الأمر مع عمرو دياب الذي قدَّمَ مع عمر الشريف فيلم “ضحك ولعب وجد وحب” عام 1993، ومن بعدها حاول أنْ يأخذ طريق العالمية؛ فحاول تقديم أغانٍ مع نجوم عالميين لتحقيق شهرة واسعة على مستوى العالم، وتمَّ الترويج له في وسائل الإعلام بوصفه بالنجم العالمي، وهو بالطبع أمرٌ بعيدٌ عن الحقيقة؛ فعلاقة عمرو دياب بالعالمية قد لا تتجاوز تشغيل بعض أغانيه في كازينو بمدينة لاس فيجاس الأمريكية، وهو أمرٌ يحدُث مع مَن هم أقل منه نجومية سواءً من مصر أو لبنان.

مقومات عمر الشريف التي جعلتْ منه نجمًا عالميًّا لم تتوافر حتى الآن لأي فنان آخر، وأعتقد أنها لن تتوافر، وإذا توافرتْ فسيظل هذا الفنان يعيش في ظل النجم المصري العالمي عمر الشريف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*صحفي ومخرج مصري

أكمل القراءة

جلـ ... منار

الطفولة لها ديونها أيضا!

نشرت

في

د. أحمد خالد توفيق

إننا نحمل في خلايانا الدروس التي تلقيناها في طفولتنا، ولا نستطيع منها فكاكا. نحن سجناء بيئتنا وطريقة تربيتنا الأولى. والقصة التي سأحكيها الان هي تجربة حقيقية مرت بكاتب المقال الأمريكي في طفولته..

كان المؤلف في السابعة من عمره وكان يهيم غراما بمتجر المستر جونز الموجود على قارعة الطريق.. السبب طبعا هو أنه متجر لبيع الحلوى.. هناك عبر النافذة المطلة على الشارع كان يقف ليرمق العالم السحري بالداخل، قطع الجاتوه المغلفة بالشيكولاته والكريم وقد غرست فيها أعلام صغيرة أو أعواد ثبتت عليها الفواكه المسكّرة. التفاح المكسوّ بالسكّر.. تماثيل مختلفة من الشيكولاته، وقلعة شيدت منها تقف فوق جبل من الكريمة. عشرات الأنواع من حلوى النعناع التي تذوب في الفم تاركة نارا لها نشوة..

لم يكن يملك قط المال اللازم لشراء ما يريد، فهو من أسرة فقيرة، وهو يعرف أن أسعار هذه الأنواع من الحلوى تفوق قدراته..

إلى أن جاء اليوم الذي ادخر فيه ما يكفي..

اقتحم المحل فدق الجرس الصغير المعلق بالباب يخبر مستر (جونز) أن هناك زبونا. خرج العجوز الطيب الذي يضع نظارات تنزلق علي قصبة أنفه، وتأمله وهو يجفف يده في منشفة، وسأله:

ـ “ماذا تريد أيها الرجل الصغير؟”

اتجه المؤلف الصغير إلى قطع الجاتوه وأشار لها بثقة:

ـ أريد خمس قطع من هذه..”

ابتسم العجوز ودس يده في قفازين وانتقى للفتى بعض القطع التي طلبها، وهو يتلقى التعليمات: “لا أريد التي عليها قشدة كثيرة.. لتكن الشيكولاته”

في النهاية أغلق العجوز علبة صغيرة ونظر للصبي متسائلا، فأشار إلى التماثيل المصنوعة من الشيكولاته:

ـ “أريد هذا القط وهذا الحصان.. أريد هذا القصر الصغير.. هل هذه عربة؟.. ضعها لي”

قال مستر (جونز) في شيء من الحذر:

ـ هل معك نقود تكفي هذا كله؟”

ـ “نعم.. نعم”

الآن انتقي بعض حلوى النعناع، وكان هناك الكثير من غزل البنات الذي مازال ساخنا فأنتقي منه كيسين، واختار بعض الكعك..

في النهاية صارت هناك علبة كبيرة معها كيس عملاق امتلأ بالأحلام، وسأله مستر جونز:

ـ “هل هذا كل شيء؟.. سأحسب..”

هنا مد المؤلف الصغير يده في جيبه وأخرج ما به.. أخرج قبضة من الكجّات الملونة التي يلعب بها الأطفال ووضعه بحذر في يد العجوز، وقال في براءة:

ـ “هل هذا كاف؟؟”

لا يذكر المؤلف التعبير الذي ارتسم علي وجه مستر (جونز).. ما يذكره هو أنه صمت قليلا، ثم قال بصوت مبحوح وهو يأخذ الكجّات:

ـ “بل هو زائد قليلا.. لك نقود باقية”

ثم دس بعض قطع العملة في قبضة الصبي، ومن دون كلمة حمل الصغير كنزه وغادر المتجر.. لقد نسي هذا الحادث تماما ومن الواضح أن أمه لم تكن فضولية، كما يبدو أنه لم يجرب ذلك مرة ثانية.. في ما بعد غادرت الأسرة المنطقة وانتقلت إلى نيويورك..

الآن صار كاتب المقال شابا في بداية العمر، وقد تزوج بفتاة رقيقة اتفق معها أن يكافحا ليشقا طريقهما.. كان كلاهما يعشق أسماك الزينة لذا اتفقا على افتتاح متجر لهذه الأسماك..

في اليوم الأول انتثرت الأحواض الجميلة في المكان، وقد ابتاعا بعض الأسماك غالية الثمن.. وكما هو متوقع لم يدخل المتجر أحد..

عند العصر فوجئا بطفل في الخامسة من عمره يقف خارج الواجهة وإلى جواره طفلة في الثامنة.

كانا يرمقان الأسماك في انبهار..

وفجأة انفتح الباب وتقدمت الطفلة وهي تتصرف كسيدة ناضجة تفهم العالم، أو كأنها أم الصبي.. وحيّت المؤلف هو وزوجته وقالت:

ـ “أخي الصغير معجب بالأسماك لذا أريد أن أختار له بعضها..”

قال لها إن هذا بوسعها بالتأكيد، لكنه شعر بأن هناك شيئا مألوفا في هذا الموقف. متى مر به من قبل؟.. لعله واهم؟..

اتجهت الفتاة إلى حوض أسماك المقاتل السيامي وهي باهظة الثمن رائعة الجمال، واختارت اثنتين فأحضر المؤلف دلوا صغيرا والشبكة وبدأ ينقل ما تريد.. ثم اتجهت إلي حوض أسماك استوائية نادرة واختارت ثلاث سمكات… وكانت تصغي لاختيارات أخيها الذي يهتم بالأسماك الكبيرة زاهية اللون طبعا..

في النهاية امتلأ الدلو ووجد نفسه يقول لها:

ـ “أرجو أن تعودي للبيت سريعا قبل أن ينفد ما في الماء من هواء، كما أرجو أن يكون ما معك من مال كافيا فهذه ثروة صغيرة”

قالت الطفلة في ثقة:

ـ “لا تقلق.. فقط ضع لي هذه وهذه”

بدأ يجمع ثمن ما وضعه في الدلو، وذكر الرقم المخيف للطفلة، لكنها لم تبد مدركة لمعنى الرقم أصلا.. مدت يديها ‘إلى جيبها وأخرجت قبضتيها مليئتين بحلوى النعناع وبعثرتها على المنضدة أمامه وسألته في براءة:

ـ “هل هذا كاف؟”

هنا شعر بالرجفة.. لقد تذكر كل شيء.. تذكر صبيا في السابعة يجمع كل ما في محل المستر (جونز) من حلوى منذ خمسة وعشرين عاما أو أكثر.. تذكر الكجّات.. ترى بم شعر المستر جونز وقتها؟..

لن تسأل كيف تصرف فقد تصرف فعلا.. رباه!.. ما أثقل الميراث الذي تركته لي يامستر جونز وما أقساه..!

كان مستر جونز قد وجد نفسه في موقف حساس، ولم يستطع أن يجازف ببراءة الصبي أو أن يشعره بالحرمان.. لم يتردد كثيرا.. وبالمثل لم يتردد المؤلف..

قال بصوت مبحوح للطفلة وهو يجمع حلوى النعناع ويضعها في الدرج:

ـ “بل هو زائد قليلا.. لك نقود باقية”

ودس في يدها الصغيرة بعض قطع العملة، فقالت في رضى:

ـ شكرا ياسيدي.. سأخبر كل صديقاتي عنك!”

وغادرت المحل مع أخيها.. هنا وثبت زوجته من حيث جلست تتابع هذا الموقف وصاحت في توحش:

ـ “هل تعرف ثمن السمك الذي أخذته هذه الطفلة؟.. إنه يقترب من خُمس رأس مالنا!”

قال لها وهو يرمق الصغيرين يهرعان تحت شمس الطريق:

ـ “أرجو أن تصمتي.. لقد كان هناك دين يثقل كاهلي علي مدى خمسة وعشرين عاما نحو عجوز يدعي مستر جونز، وقد سددته الآن!!”

أكمل القراءة

صن نار