وهْجُ نار

لماذا اختار قيس سعيد المهمّ … ونسي الأهمّ؟

نشرت

في

تعالوا نتحدّث بواقعية وبكل وضوح بعيدا عن تشنّج الخصوم…وبعيدا عن تعنّت الموالين عمّا نعيشه وكيف نخرج منه…هل كان هذا الشعب في حاجة إلى كل ما وقع منذ 14 جانفي 2011…وهل كان في حاجة أيضا إلى ما وقع منذ 25 جويلية 2021؟ والسؤال الأهمّ ماذا حققنا وماذا كسبنا مما وقع بعد هذين التاريخين؟

محمد الأطرش

أظنّ أنه إذا كنّا حققنا بعض المكاسب على مستوى الحريات العامة وحرية التعبير والتعددية السياسية المبالغ فيها إلى درجة الإسهال، وإذا كنّا تفادينا السيناريو الليبي والسيناريو السوري فإننا لم نحقّق شيئا آخر يذكر على مستوى ما كان يطالب به عاليا من خرجوا في “حراك” ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011…أعود لأقول إذا كنّا حققنا ذلك بعد 14 جانفي والذي أعتبره “التحوّل الثاني” فإننا لم نحقّق شيئا بعد التاريخ الثاني وهو 25 جويلية 2021 والذي أعتبره” التحوّل الثالث” بل بالعكس خسرنا الكثير من المواقع على مستوى الحريات وحرية التعبير وخسرنا الكثير على المستوى السياسي.

فنحن اليوم نعيش عملية بناء منظومة سياسية جديدة على أنقاض منظومة سابقة…منظومة جديدة ألغت مؤسسات كل من سبقها ولا أحد يعرف أين ستذهب بنا…فالتحوّل الأول الذي جاء به الرئيس بن علي رحمه الله لم يعلن القطيعة مع من سبقه فنجح في تحقيق الاستقرار والكثير من الإنجازات على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، لكنه وللأسف نجح أيضا في كسب “معركة الحريات” التي لم تشهد تطوّرا كبيرا عمّا كانت عليه في عهد الزعيم بورقيبة رحمه الله وذلك بكبحه جماح كل من ناضلوا في سبيل تحقيق حرية الرأي والتعبير والتعددية السياسية…

أما التحوّل الثاني الذي أطلّ علينا دون قيادة وجاء رافعا شعار القطيعة مع الماضي لم ينجز شيئا باستثناء حرية الرأي والتعبير واكتفى بمحاسبة الماضي فخسر حاضره ومستقبله… أمّا التحوّل الثالث فجاء لإعلان القطيعة مع الحاضر الذي وجده وكان شريكا معه لسنة ونصف، والقطيعة مع كل المنظومات السابقة…والقطيعة مع التاريخ…فهو جاء، وهذا الأهمّ لمسح كل تاريخ البلاد و”هدم” كل ما بُني خلال التحوّلات السياسية السابقة قصد بناء منظومة جديدة على مقاس وفكر صانع التحوّل الثالث الرئيس قيس سعيد… فساكن قرطاج يريد كتابة التاريخ على طريقته واختصار الماضي ومن سبقه في بعض الاسطر…فقيس سعيد لا يريد مجرّد ذكر اسمه في مسار تاريخي لدولة مرّت بعديد التحوّلات منذ انبعاثها، لكنه يريد ان يكون علامة واضحة وفارقة لكل قراء التاريخ من خلال بناء سياسي جديد كالذي بناه الزعيم بورقيبة…

قد يقول بعض المستبشرين بما أتاه صانع التحوّل الثالث حققنا إنجازا غير مسبوق بإبعادنا النهضة من الحكم… إذا كان فعلا ما يقول عنه جماعة “الصفر فاصل” إنجازا ويعتبرونه كذلك فما هي المكاسب التي تحققت للمواطن التونسي العادي الذي لا شأن له بالعمل السياسي؟ الإجابة بكل واقعية “لا شيء”…ابعاد النهضة هو فقط تحقيق رغبة مزاج من كانت النهضة حجر عثرة أمامهم للوصول إلى الحكم، وهو أيضا انتقام من الإسلام السياسي لمكونات لها ثأر قديم مع الاتجاه الإسلامي ثم النهضة في مرحلة ثانية ليس أكثر…

ابعاد النهضة ومن معها من المشهد الحاكم هو البرنامج الوحيد الذي جاء به الرئيس قيس سعيد لينقذ عهدته من غياب الإنجازات، فإبعاد النهضة لاقى استحسان نسبة كبيرة من الشعب التونسي وجعلهم يباركون ويدعمون كل ما يقرره الرئيس سعيد، لكن هل سيتواصل حقّا هذا الدعم والمناشدة الواسعة لما يأتيه الرئيس بنفس الحماس إن وصلت البلاد إلى حافة الإفلاس؟ أظنّ أن نتائج الانتخابات التشريعية دليل واضح على تدهور نسبة الدعم والمساندة… فماذا إذن لو أضرّت الأزمة بكل فئات هذا الشعب ومسّت قوته وقوت صغاره؟ لا أظنّ ان الرئيس قيس سعيد سيلاقي نفس هذا التوهّج ممن غنوا له كثيرا “الله واحد الله واحد وقيس ما كيفو حد..” لو جاع الشعب غدا وشعر بفراغ معدته…

هنا وجب التساؤل الذي لا يمكن اغفاله، كيف ولماذا وصلنا الي هذا الوضع رغم كل ما نلوكه عن العمق الحضاري وعن تجذّرنا في التاريخ وزعاماتنا وحنبعل وبورقيبة ومن معه وباقي الأسماء التي تزيّن كتب تاريخنا؟ ووجب أيضا ان نسأل أنفسنا كيف يمكن الخروج من النفق؟ وهذا السؤال شديد التعقيد يحتاج الي جهد جماعي لكبار وعقلاء البلاد من شمالها إلى جنوبها، وليس لفكر واحد لشخص واحد أو لجماعة تحتكر التفكير عوضا عن الشعب؟

فالقضية الاساسية للرئيس سعيد ومن معه اليوم أصبحت واضحة للعيان وهي البقاء في الحكم وضمان الاستمرار فيه، رغم يقينهم انهم لم ينجزوا شيئا لهذا الشعب وأن المدّة المتبقية من العهدة لن تكون كافية لتحقيق إنجاز يقلب الكفّة لصالحهم وصالح استمرارهم في الحكم…فالنظام الحاكم اليوم يعرف ما يريد ويسعي لتحقيقه بكل السبل والوسائل لكنه في نفس الوقت لا يعرف كيف سيحقّق ما يريد، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا أيضا ماذا عن معارضة مشروع الرئيس وجماعته؟ ما هو تصورهم وماهي السبل التي سيسلكونها من اجل ابطال مفعول هذا المشروع “الافتراضي” او الرد عليه بمشروع “واقعي” آخر يدير رقاب الشعب واصواته، إن تمّ تأكيد تنظيم الانتخابات الرئاسية القادمة والحفاظ على موعدها…؟

والإجابة…لا شيء…أيضا وهنا تكمن الورطة التي تعيشها البلاد، فنحن اليوم لم نعد نعرف أين المشكل؟ هل هو أزمة حكم أم أزمة معارضة؟ هل سنستسلم لنظام قد يجنح لـ”الاستبداد” إن تركناه وحيدا وسلمنا له رقابنا جميعا، ام نهرول نحو معارضة تعيش أزمة في العمق وغير قادرة على تغيير نظرة الشعب عنها ولها…فالمشهد السياسي تمّ إفراغه من كل أثاثه القديم والمترهّل مع سابقية الإضمار والترصّد دون أن نعرف لصالح من يقع استهداف المشهد السياسي وانهاك جسده بهذه الشاكلة؟ وهل تخدم عملية الإفراغ و”التصحير” ساكن قرطاج؟ فهو الوحيد الذي سيتحمّل عبء وتبعات هذه المرحلة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وهو الوحيد الذي قد يحاسبه الشعب عبر الصناديق إن تمّ الحفاظ على الموعد الانتخابي القادم… ولا أظنّ أنه سيغامر بتأجيلها حتى يحقّق منجزا يقيه عقاب الشعب يوم الانتخاب، فقد يطول به المقام في قرطاج دون تحقيق منجز يعيد له بريق انتخابات 2019…

هل سيبقى في نهاية المطاف وقبل الانتخابات القادمة ساكن قرطاج المؤثث الوحيد لمشهد سياسي أعرج يعاني من ظاهرة التصحّر ويعيش الانجراف منذ انتخابات 2019؟ وماذا يقصد الرئيس حين قال في المنستير إنه لن يسلّم الوطن لمن ليسوا وطنيين؟ هل سيؤكّد بقوله ما استقرّ في اذهاننا طويلا أن من يجلسون على كراسي الحكم هم من يحتكرون تمثيل الوطنية، وهم رموزها، وهم من يوزعونها على من يريدون ويختارون من الشعب؟ هل يعني ذلك ان كل معارض لهؤلاء الجالسين على كراسي الحكم يمكن اتهامه بكل بساطة بالخروج عن النهج الوطني وبأنه غير وطني؟ … وهنا وجب العودة إلى سؤالنا المحوري…ماذا سيكسب المواطن من كل هذا؟ وهل يكفي إفراغ المشهد السياسي والبقاء وحيدا متربعا على كرسي الحكم للاستمرار في الحكم عهدة أخرى، وتسجيل اسمك في تاريخ البلاد كأحد بناتها العظام؟

لا أظنّ أن ذلك يكفي ولا اظنّ ان الرئيس غير متفطّن لما يجب عليه فعله لهذا الشعب حتى يُبقي على دعمه ومساندته حتى موعد الانتخابات القادمة…فالرئيس لا يريد ان يُمضي على اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي بالشروط التي تضمنها…رغم أنه يدرك اننا دون اتفاق مع هذا الصندوق ستتواصل أزمتنا المالية والاقتصادية عموما…وسيتواصل صعود نسبة العجز وستستمر نسبة التضخم في الارتفاع، وسيبقى ارتفاع الأسعار وسيستمر إلى يوم القيامة وقد يفتح باب الفوضى على مصراعيه…

هذا ما لم يقرأ له الرئيس حسابا…فلا يكفي أن نلبي رغبات جزء من الشعب وتحقّق له ما لم يقدر على تحقيقه بالانتخابات لتكسب دعمه وولاءه إلى ابد الآبدين، ونحافظ على موقعنا في أعلى هرم السلطة…ولا يكفي أن نُرضي مزاج فئة لا هدف لها غير تصفية حسابها القديم مع فئة أخرى ومكوّن سياسي حتى وإن فشل هذا المكوّن في إدارة شؤون الدولة، وساهم مع البعض الآخر في ايصالها إلى ما هي فيه اليوم…

ماذا حققنا لهذا الشعب منذ 25 جويلية؟ ماذا كسب المواطن التونسي البسيط من ذلك التحوّل السياسي؟ وماذا قدمنا له ولأبنائه وماذا تغيّر في حياته؟ ألم يدرك من حوّلوا وجهة ساكن قرطاج إلى ما يضمرون، أن المواطن لا حاجة له ببرامجهم السياسية التي لا تنفع…ولن يستفيد منها في معالجة ما يعانيه…وانه لا يهتمّ بتغيير النظام من نظام برلماني إلى رئاسي او حتى نظام قاعدي…كل تلك التعابير يعتبرها المواطن البسيط تُرّهات لن تخرجه من المعاناة التي يشعر بها منذ 14 جانفي…المواطن التونسي اليوم يريد أن لا يجوع…وأن لا يموت بردا…وأن لا يحترق بشمس خلافاتكم…وأن لا يكتوي بلهيب أحقادكم…وأن يهنأ بأبنائه ..يريد أن توفروا له السكن…والغذاء…والشغل…وغير ذلك من متطلبات الحياة….يريد أن يحضن أطفاله دون خوف من غد قد يحرمه تلك المتعة…يريد أن يضحك مع عائلته وهو مطمئن البال على رزقه….يريد أن يجد ملاذا آمنا يستمتع فيه بالحياة…يريد أن لا يدق بابه من يطالبه بمال استلفه منه ولم يقدر على إعادته…يريد أن لا يحبط أحد أبنائه لأنه ملّ الانتظار في قائمة العاطلين…يريد أن يخرج سائحا في وطنه دون أن تحرمه خلافاتكم وتخاريفكم من ذلك…يريد أن يكون حرا في معتقداته…وفي طريقة عيشه…

لو نجح أحدكم في توفير كل ذلك فلن يسأل عنه من يكون…ولا من أتى به…ولا كيف فعل ذلك…المواطن لا يهتمّ بأفكاركم ومخططاتكم وما تعبدون…المواطن يلعن نظرياتكم السياسية بيمينها ويسارها وحتى وسطها…ولا يأبه بمن علمكم كيف تحكمون الدول وتديرون شؤونها…المواطن يريد فقط…أن يعيش مع أبنائه سعيدا…دون أن يسمع منغّصات الحياة التي توزعونها يمنة ويسرة….خلاصة الأمر المواطن يريد أن يموت في وطنه سعيدا…ولا يضطر إلى مغادرته طريدا…فهل تحقّق له شيئا من كل ما ذكرت؟ لا…لنعترف بذلك…فمن ماتوا انتظارا…ومن ماتوا كمدا…ومن ماتوا احباطا…ومن ماتوا غرقا…ومن ماتوا يأسا ومن ماتوا إرهابا ومن ماتوا انتقاما خلال اثنتي عشرة سنة لم يموتوا في تونس منذ انبعاثها كدولة…فماذا حققتم إذن بكل ما فعلتم؟

سيسأل بعضنا أو لنقل بعض أتباع ساكن قرطاج من المتعصبين الذين يعتبرون الرئيس هو ظلّ الله في الأرض، وماذا إن لم يحقّق الرئيس كل هذا للشعب في ما بقي من عهدته هل سيختار الشعب غيره للجلوس مكانه؟ وهنا علينا ان نعترف أن أزمتنا ليست مجرّد أزمة حاكم نسي الأهمّ واكتفى بالمهمّ، أو أزمة من سيحكم البلاد بعد قيس سعيد أو أزمة نظام حكم، أو أزمة معارضة لم يعد يرغب فيها جزء كبير من الشعب، أزمتنا هي بالأساس أزمة وطن وعلينا قبل كل شيء استعادة معني هذا الوطن…فالوطن للجميع…والجميع للوطن…وحين يكون الوطن للجميع فلا سبيل لنا غير “المصالحة الشاملة” التي ستكفينا شرّ القتال والاقتتال وتبعدنا عن الفتن ما ظهر منها وما بطن…

فلو اختار الرئيس قيس سعيد الأهمّ قبل المهمّ وأعلن مؤتمرا وطنيا للمصالحة الشاملة أعاد فيه الأخ لأخيه والابن لأبيه، لامكن له كتابة التاريخ “زعيما” موحّدا لشعب شارف على الهلاك والتشتّت…فالمصالحة هي التي ستقضي على كل الأحقاد بيننا…وهي التي ستوحّد كل الجهود من اجل هدف واحد …انقاذ البلاد…ومن يا ترى سيعارض انقاذ البلاد…لو تصالحنا…فهل يفعلها ساكن قرطاج ويسجّل اسمه “زعيما” في كتب التاريخ مع من أعلنوا القطيعة مع الأحقاد أم يختار ان ينافس نفسه في انتخابات على المقاس …وعلى المقام… على كرسي عالي المقام؟؟؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version