على طول الحياة، نقابل أناسا، و نفارق أناسا، و نكره أناسا، و نحب أناسا، و يموت لدينا أحبة كثيرون … و مع ذلك، هنالك فئة لا نقبل لها موتا و لا غيابا، و لا نعترف بسلطان الزمن عليها، و لا بقوانين الطبيعة و الأجل و الكتاب …
أهل الفن مثلا … ليسوا من أقاربنا و لا نعرف معظمهم و تسعة أعشارهم لم نقابلهم حتى … و مع ذلك قامت القيامة تقريبا حين مات حليم (صاحب مطلع كلامنا هذا)، و قبله زُلزلت الأرض زلزالها مع وفاة أم كلثوم … و حتى الزعيم ناصر بكاه المصريون و العرب، ربما لأنهم ودّعوا فيه “صورة” و “السد العالي” و “عدّى النهار و المغربية” و باقي فواصل العندليب التي ارتبطت به و بعصره … تماما كما تلازمت معركة بنزرت الشهيدة مع ملحمة بني وطني، و مع مطربتنا “عُليّا” بلباسها البسيط و عينيها النجلاوين و صوتها الراعد … و تلك كانت أجمل طلاّتها على مرّ السنين …
أول أمس، ران على قلوبنا حزن عميق عمق هذه الأرض و هذا القلب و نحن نسمع برحيل مطربة لها أيضا معنا قصة و ملحمة … هي امرأة من صفاقس … و حين تصمم هذه المدينة الجادّة أن تكون فنّانة، فصعب عليك أن تلاحقها و إن فعلْت، فلن يكون إلا بآهة إعجاب … و إلى الآن ما تزال دندنات الجموسي تسحرنا و تهزّ منّا العروق فيما صاحبها هادئ هامس و يبتسم … و إلى الآن أيضا، ما نزال نرتعش مع أية أغنية للرقيقة “صفوة” و سنبقى كذلك بعد غيابها الذي حدث منذ يومين … أما لماذا، فيكفيك سبب واحد لكي تنجذب لصوتها المنغّم و تقول يا أجمل الذكريات …
صوت صفوة يقترن عندنا بأيام منتخب الأرجنتين الخالد و صولاته التي تابعناها على مدى ثلاثة أعوام … نعم … منذ أمسك زعيمنا الشتالي زمام فرقة موهوبة من شبابنا الفقير الطائش … و حوّلها إلى كتيبة رهيبة أحيانا، و أوركسترا نمساوية أحيانا أخرى، و عنصر توحيد لشعب يستحيل توحيده بطريقة أخرى … و قد أجازف قليلا عندما أقول إنه بفضل بعض المحطات “الحربية” العليا، نشأ على أرضنا شعب و علَم و كيان … و من هذه المحطات الأرفع صوتا، كانت مرحلة منتخب الأرجنتين الذي عشنا معه كل شيء، و كل خوف، و كل فرح، و كل غضب، و كل مجد …
و ما نذكره و ما دمنا نتأسف اليوم على رحيل صفوة، أن مشرفي تلفزتنا كانوا يبرمجون أغنيتين لهذه المطربة تأثيثا لما بين شوطيْ كل مباراة يخوضها منتخبنا … و طبعا مع فرقة إذاعة صفاقس … دبلج و حديدة، عند أبّي منصور، تنوّر و تجيب زيتونتنا … و سبحان الله … ما أن يأتي الشوط الثاني حتى يزأر منتخبنا كما لم يفعل من قبل، و يفترس خصمه افتراسا، و تشتعل مدرجات ملعب المنزه كمهرجان هائج من النور و النار … و ينتهي كل شيء بتصفيرة الحكم، و بأغنية “الليلة عيد” للرائعة الأخرى … السيدة نعمة !
و قد تكررت هذه الظاهرة … صفوة بين الشوطين، و نعمة في ستارة الختام، و بينهما منتخب يعصف و يقصف، و يا ربّ أدِمْ علينا النِعَم … و بما أن شعب الرياضة هو أكثر الشعوب حساسية و تفاؤلا و تشاؤما على الإطلاق، فقد عاود أهل التلفزة التجربة باستمرار تقريبا … و تذوّقنا ذلك بشغف، و صارت صفوة و فرقة صفاقس مكوّنيْن أساسييْن في رحلتنا نحو المونديال … علاوة على فرسان ثلاثة آخرين كانوا يبارزون بضراوة فوق الميدان و هم أيضا من عطاء عاصمة الجنوب … عقيد، ذويب، و العبقري حمادي …
بكل حب و حنين إذن، نترحّم على نخلة الغناء التونسي السمراء و طيب أيامها … و نخشى أن نترحّم أيضا على منتخب لم يعد وطنيا و لا تونسيا و لا موحّدا، بل ربما العكس … و دفع الله ما كان أعظم.