لماذا تُطالب رئاسة الجمهورية… بمراجعة خارطة المسالك والاختصاصات في التعليم العالي ؟
نشرت
قبل 6 أشهر
في
رغم مرور عقود طويلة على تأسيس الجامعة التونسية، يلاحَظ أن خارطة المسالك والاختصاصات لم تستقرّ بعدُ (باستثناء بعض المسالك بعينها مثل الدراسات الطبية والهندسية وجزء من العلوم الإنسانية والاجتماعية) وظلّت تراوح بين المركزية الخانقة واللامركزية السائلة، وبين تجميع الاختصاصات في عائلات كبرى قبل تفريعها في مستويات جامعية متقدمة، أو الانطلاق مباشرة بعد النجاح في الباكالوريا في تدريس اختصاصات دقيقة مُحددة يُحبس داخلها الطالب إلى غاية تخرّجه.
لقد بلغت حالة الفوضى وانسداد الأفق أمام خرّيجي أغلب الشعب الجامعية مستويات قياسية تستوجب التدخل العاجل والمعالجة الفورية (نسبة بطالة بــ23.7 % خلال الثلاثي الثاني لسنة 2023 ـ حسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء ـ وتصل هذه النسبة إلى حوالي 36 بالمائة بالنسبة إلى صاحبات الشهائد الجامعية بما يجعل تونس في مقدمة البلدان التي لا تشغّل بناتها المتخرجات متجاوزة الباكستان والعربية السعودية وإيران، بالرغم من أن الفتيات التونسيات تمثلن النسبة الأكبر من الحائزات على شهائد في كل المجالات تقريبا : 74 % في العلوم الفلاحية و 75 % في علوم الصحة و 55 % في تكنولوجيات الإعلامية و 77 % في العلوم الطبيعية والرياضيات، حسب معطيات المنتدى الاقتصادي العالمي لسنة 2023).
ويُمكن حسب اعتقادي أن تتم مراجعة شبكة الشعب والاختصاصات الجامعية في تعليمنا العالي وفقا لبعض المقترحات التالية:
دمج منظومتي التعليم الجامعي والتكوين المهني المُتاح بعد الباكالوريا
من الناحية الشكلية والإجرائية الصرفة لا فرق جوهري بين شهادة الباكالوريا في التعليم الثانوي وشهادة مؤهل التقني المهني في منظومة التكوين المهني (وكان من الممكن تماما أن نُطلق على هذا المستوى من الإشهاد شهادة الباكالوريا المهنية أو التكنولوجية أو التأهيلية). وعليه، فإن بقاء هاتين المنظومتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى يُفرز “تجديدات” و “إحداثات” في الجامعة لا تنطبق عليها المواصفات الأكاديمية ولكنها فرضت وجودها بمرور الزمن، وأضحت جزءً من المشهد لم نقدر لا على التخلي عنها ولا على الاحتفاظ بها مثل “ناقل الريشة” في التراث الشعبي الذي يجد نفسه أمام اختيار إلزامي يكون بموجبه نادما في الحالتين سوى أخذ معه الريشة أو تركها. ومقابل ذلك، تبقى اختصاصات التكوين المهني (الما بعد باكالوريا) اختصاصات يتيمة لأنها تصطدم بعدم إمكانية مواصلة التكوين داخليا وغلق أبواب الجامعات أمام خرّيجيها من ناحية أخرى.
إحالة عديد الشعب الجامعية فورا إلى منظومة التكوين المهني (مؤهل التقني سامي)
شعبٌ مثل تقنيات اللفّ وتقنيات التصميم (بتفريعاتها المختلفة : الإشهار والهندسة الداخلية والابتكار الحرفي والمصوغ والأثاث والتعليب والابتكار الصناعي والرسوم المتحركة وفن الحجارة والتزويق والنسيج والملابس ومساعد إدارة والدبلجة والتقاط الصوت ومستحضرات التجميل والروائح والعطورات والتصرف في التزويد والرياضة للجميع وصيانة الآلات الثقيلة إلخ… وأنا متأكد أن العديدين منكم بصدد التشكيك هذه اللحظة إن كانت هذه الاختصاصات موجودة فعلا في منظومتنا الوطنية للتعليم العالي أو هي مجرد صورة كاريكاتورية لا علاقة لها بالواقع) اختصاصات كهذه يُدرّسها في أغلب الأحيان حرفيّون ومهنيون من مشارب مختلفة ولا آفاق واعدة أمامها في سوق الشغل، أجدر بها أن تُدرّس في سياقات تكوينية ممهننة “على فنّو ومعناه”.
تجميع الاختصاصات الدقيقة في جذوع أكاديمية مشتركة كبرى
في ماساشوستس أو كامبريدج أو أوكسفورد أو هارفارد أو ستانفورد أو الجامعة الوطنية بسنغافورة (NUS) …وهي الجامعات التي تعتلي سدّة ترتيب الجامعات على المستوى العالمي تتمحور الاختصاصات فيها حول عائلات محورية كبرى مثل علوم الإعلامية والعلوم الإنسانية والاجتماعية وعائلة البيولوجيا والكيمياء والرياضيات والبيوتكنولوجيا والميكروبيولوجيا المطبقة والطب وعلوم الهندسة والعلوم القانونية والأعمال (الإدارة والمالية والاقتصاد (كما في هارفارد) ويُترك للطالب خلال مساره الجامعي حرية تدعيم تكوينه الأساسي بوحدات اختيارية موازية حسب ميُوله ووفق ما يغذّيه من مشاريع مستقبلية في علاقة بسوق الشغل وتطور المهن …
أما الاختصاصات الصناعية أو التمهينية الصرفة فلها مؤسساتها الخاصة ومُكوّنوها المخصوصون… ولا يهم كثيرا في هذا المجال تحديد أية وزارة تتكفل بهذا التكوين أو ذاك، ولا تهم أشكال التنسيق والنواحي القانونية والإجرائية لأن الغاية الأسمى هي عدم الزجّ بأجيال في اختصاصات هجينة لا هي بالمهنية ولا بالأكاديمية.
يُلاحظ في تونس أن نفس “الجامعيين” الذين يُعدّون مضامين الإجازات الأساسية هم أنفسهم من يُهندسون محتويات الإجازات التطبيقية (قبل التخلي عن هذا التفريع البهلواني منذ سنتين أو ثلاث) ومن يدرّس الأساسي هو نفسه من يُدرّس التطبيقي دون أي تمييز بين المهارات المطلوبة هناك والاستعدادات المستوجبة هنا.
تحدّثتُ مؤخرا مع بعض الطلبة الصُمّ المُتابعين لدراساتهم الجامعية ضمن شعبة “لغة الإشارات” وأكد جميعهم على أن إحداث هذا الاختصاص بالرغم من ثوريته وتاريخيته لم يسبقه أو حتى يرافقه إعداد جيد لمن سيُدرّس المواد والوحدات المُبرمجة فيه (علم اجتماع الصّمم، النحو الإشاري، طرق التواصل مع الأمم … نعم ! … لغة الإشارات التونسية، تقنيات الترجمة والتأويل، إلخ…) حتى بات بعض “المُعوّل عليه للتكوين” يأتي إلى الفصل لكي يعيش ويتعلّم ويكتشف ويعرف ظواهر جديدة في عالم الصمّ لم يألفها البتّة في حياته. ومن النوادر المسجّلة في هذا الباب أنه خلال فترة الكورونا كان الأساتذة يرفضون نزع كمّاماتهم خوفا من الإصابة أمام فئة من الطلبة لا يكتمل في أذهانهم المعنى الكامل للكلام إلا متى ارتسمت على شفاه المتحدّث حركات وإيماءات وإشارات غير صوتيّة تُوصل المعاني إلى المتلقّي !
القطع مع “الطبقية” في التعامل مع الجهات الداخلية
من الواضح أن المؤسسات المزروعة عشوائيا بالجهات الداخلية تعاني حسب تقديري من ثلاث معضلات كبري هي :
– استقبالها لأضعف معدّلات النجاح في الباكالوريا بالنسبة إلى كل الباكالوريات
– احتضانها لأكثر الاختصاصات الجامعية معاناة من بطالة خرّيجيها طويلة الأمد
– تسجيلها لأضعف نسب التأطير من حيث جودة التكوين إذا قسناها بمؤشر تواجد أساتذة الصنف أ من الجامعيين في مُدرّجات مؤسسات تلك الجامعات (أي أساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرون مقارنة بباقي الأصناف: الأساتذة المساعدين، المساعدين القارين، المساعدين المتعاقدين، المتعاقدين الحاملين لشهادة الدكتوراه، المتعاقدين المسجلين بشهادة الدكتوراه، التكنولوجيين، أساتذة التعليم الثانوي، الحرفيين، الخبراء الفلاحيين إلخ…)
فعلى سبيل المثال يتوزع أساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرون (Corps A) سنة 2022 في بعض جامعاتنا على النحو التمييزي التالي :
جامعة سوسة : 93 أستاذ تعليم عال و 106 أساتذة محاضرين
جامعة تونس المنار : 329 أستاذ تعليم عال و 174 أستاذا محاضرا
جامعة جندوبة : 11 أستاذ تعليم عال و 18 أستاذا محاضرا فقط… مقابل 131 أستاذ تعليم ثانوي
جامعة القيروان : 6 أساتذة تعليم عال و 19 أستاذا محاضرا فقط… مقابل 109 أساتذة تعليم ثانوي
وهو مشهد هيكلي مختلّ جدا يتجاوز مجرد المطالبة بمراجعة بعض المسالك وإيجاد الحلول الظرفية لطول أمد بطالة خريجي الجامعة التونسية.