لماذا لا تعترف وزارة التربية … بدخلات “الباك سبور”؟
في ظل انفراد عائلة واحدة بكامل مشهدنا … هل تكون فنون الشباب والشارع، هي البديل والمتنفس؟
نشرت
قبل سنتين
في
منذ أيام، راجت على المواقع شطرة فيديو مسجلة في أحد معاهد المهدية … ومحتواها ما اصطُلح على تسميته بدخلة باكالوريا الرياضة، ولكن ما رأيناه كان عرضا فنيا ممتعا بكل المقاييس!
يبدو أن تلامذة المعهد تشاركوا في ما بينهم لجلب فرقة موسيقية (فلكلورية) محترفة، ثم نظموا مجموعاتهم بشكل لا يمكن أن تسميه إلا بالكوريغرافيا المتناغمة مع إيقاع الفرقة وعزفها … وبتوزيع أدوار بين من يحتلون مقدمة الساحة رقصا كأنها خشبة مسرح عريض … فيما كان بقية التلاميذ (وهم بالمئات) يتفاعلون على حافة الساحة بحركات جماعية مندمجة هي الأخرى في جوّ العرض إيقاعا وموسيقى … فهل يمكن أن يكون ذلك غير عمل فني مسبق الإعداد يا صديقي؟
وبعيدا عن أي تعصب لهذا الجيل أو ذاك، تتساءل بينك وبين نفسك: لماذا نتمسّك دوما بنوع واحد من الفنون ونصم ما دونه بالرداءة والإسفاف؟ … خاصة إذا نظرنا إلى أجيالنا الحالية وهي تهجر مفهومنا التقليدي للفنّ وتجترح مفاهيم خاصة بها وبزمنها الذي ليس زمننا بالحتم … أنا أيضا من الذين يترحمون على “أيام الفن الجميل” وصور الأبيض والأسود ومصادر إلهامها العائدة إلى القرن 19 وما قبله (عربيا وغربيّا) … ومن الذين يعتبرون الموسيقى الصحيحة هي تلك التي تتشرّب عروقها من موزار وبيتهوفن وإسحق الموصلي وزرياب، ونقلها إلينا بالسماع سيد درويش وعبد الوهاب والسنباطي وزكريا أحمد والأخوين رحباني … نعم، أنا من تلك الأجيال التي لا تعترف بالموسيقى خارج أصولها، ولا تعير سماعها إلا لمن كان وفيا لتلك الأصول …
ولكن … ألا تكون هذه “الأصولية” هي سبب بلوانا؟ فحتى البلاد التي خرجت منها أقوى السمفونيات وتضخّ بلدياتها ووزارات ثقافتها وخيّروها الأموال الجرّارة لدعم أوركسترات بمائة وعشرين عازفا وعازفة ومنشد كورال ومنشدة … حتى تلك البلاد (النمسا، ألمانيا، إيطاليا، روسيا …) هاهي تشجّع أيضا الظواهر الشبابية مثل الهيب هوب والراب والأندرغراوند وباقي الفنون المستجدّة، التي ستصبح يوما كلاسيكية بدورها وتأتي أجيال تتجاوزها وتأتي بغيرها وهكذا … هكذا هم يتقدمون ويكتشفون ويتيحون الفرصة لأي دم جديد حتى تيقى الشجرة خضراء والحياة في استمرارها العجيب …
أما نحن فأصوليون سلفيون متحجّرون لا في الدين والسياسة فحسب بل في ثقافتنا التي تصرّ على الذوق الواحد والحزب الواحد … وهي ثقافة مترسّخة لدينا كالوشم كالعاهة كالنقش في الحجر … لذلك مثلا فشلت جميع تجاربنا التعددية ومحاولاتنا الديمقراطية، إذ كيف يمكن أن نتعايش وسط برلمان ملوّن وكل واحد منّا يرى أن الدنيا فكرة مفردة وما عداها زنديق وجب جلده ورجمه وتقطيع أطرافه وحرقه في سقر جهنّم ؟؟
نعود إلى الفن أحسن … ليتنا نفتح صدورنا ونوافذنا وأسماعنا لهذا الشباب الذي لايشبهنا وليس مطلوبا منه أن يشبهنا … وإن لم يعجبونا فلهم ذلك وهو حقهم، نتواجد عتيقا وحديثا ونقتسم الفضاء العام دون انفراد أو استبداد … لهذا، لِمَ لا تكون هناك مهرجانات رسمية وجوائز لفنّ الراب تتبنّاها وتدعمها وزارة الثقافة، دون أن تتخلى عن المهرجانات والفنون التي تتبناها وتدعمها تقليديا … ودون حتى أن تمس من احتكار سلالة بوشناق لما في الأرض وما في السماء … ولم لا ترصد وزارة التربية جائزة لأحسن دخلة “باك سبور” بدل إصدار مناشير منعها ومعاقبة مرتكبيها؟ … ولم لا تفعل نفس الفعل وزارة الرياضة مع دخلات المباريات الرياضية حتى تفرز سمينها من غثها، وتشجع شبابنا على الخلق الجميل بدل العنف والشتائم والمقذوفات المختلفة؟ …
لو نجرّب ذلك فلن نخسر شيئا، على الأقل ليس أكثر مما نخسره الآن … وربما نجد أنفسنا سائرين في اتجاه التاريخ، وثانيا نقوم بتسوية فنون هامشية قد تحقق فائدة … بدل أن تبقى حبيسة السراديب والزوايا الفوضوية المظلمة، وتفعل بنا ما فعلته التجارة الموازية …