لم نبرح مكاننا في حديث أوكرانيا … إذ قد يخرج بوتين من هذه البلاد النكرة قبل أن نخرج من موضوعها و من أمثلتها الكثيرة … و آخرها تلك الانتهازية الدولية في التهافت على مناصرة منطقة لا يكاد معظمهم يعرف أين توجد و من يوجد فيها … و خاصة كيف وُجدت.
العراق و سوريا دولتان مجموع عمريهما معا يتجاوز العشرة آلاف سنة متّصلة، و بهما أقيمت أقدم مدن الأرض العائشة حتى اليوم، و أنجبتا 99 بالمائة من أنبياء الكتاب المقدّس، و شعراء الكتاب المدنّس … و مع ذلك لم يتوجّع أحد في “الأمم المرتعدة” من دمارهما شبه الكامل، و لم يتفجّع عليهما وزير خارجية و لا مندوب سام و لا مراسل صحفي يبكي على الحضارة و أجداده نزلوا للتوّ من جبال الرعي … في حين أن دولة من حفنة دول خلّفها “ربيع” تخريبي آخر، و لكن حدث قبل ربيعنا بعشرين سنة، تتحول إلى كعبة الاهتمام العالمي و عاصمة حضارته و حائط مبكاه … وذلك في ثوان قليلة بعد تقدم القوات الروسية نحوها، و قبل أن تطلق رصاصة واحدة … عكس الدمار و الشنار الذي طال واحدتين من مهاد الإنسانية و حضارتها الحق.
في ما يخصني و مهما كانت نتائج هذا الصراع المحتدم شرقي أوروبا، فإنني لست من أنصار أوكرانيا و لا من أنصار أنصارها … بل و لا يهمني دمار أوروبا الشرقية الانتهازية بكاملها … هي أرض النفاق و الشقاق و مفاسد الأخلاق، كما وصف الحجّاج ظلما أهالي الكوفة و البصرة في القرن الأول للهجرة … دول كانت ـ باستثناء ألمانيا الشرقية ـ معاقل للتلوّن و الانقلاب و الطغيان و بيع الذمم … كانوا مع بروسيا ثم انقلبوا عليها … صاروا مع العثمانيين ثم باعوهم … حمتهم امبراطورية النمسا و علمتهم شيئا من حضارتها فغدروا بها … أنقذهم ستالين من إبادة نازية مؤكدة، و أسس لهم كيانات عصرية و صناعة و ثقافة و علوم ذرة و فضاء، فاستبدلوه بلمجات “ماك دونالد” و زجاجات الكوكا و ملابس أمريكا المستعملة …
إلى الآن لا ننسى تلك المشاهد المخجلة لمواطني ألبانيا (المصوّتة بحماسة هذه الأيام مع المعسكر الغربي) و هم يلقون بأنفسهم في البحر المقابل للسواحل الإيطالية … على ماذا؟ طلبا للحرية من حكم نظام أنور خوجا الوطني رغم كل شيء؟ … ها قد انتهى ذلك الحكم و ها أن الألبان يرفلون في نعيم البطالة و التخلف و يعيشون متسولين أذلاّء على أرصفة أوروبا و إيطاليا خاصة … أما حكامهم (الديمقراطيون) الجدد، فقد أمعنوا فيهم نهبا و فسادا و تكديسا لثروات لا يرى منها شعبهم و لو مليما … على الأقل، خوجا و نظامه لم يكونوا لصوصا و لم يرهنوا البلاد للخارج و لم يقبلوا بأن يُهان مواطنوهم لدى الأغراب كما يقع الآن …
لمناصري أوكرانيا (من العرب) و معها ألبانيا و بولونيا و رومانيا و المجر و باقي الشلة، كانت هذه الدول ـ طوعا أو كرها ـ من حلف مناصري القضية الفلسطينية و حتى اللاجئين السياسيين العرب … و مبدعيها أيضا، من الجواهري إلى البياتي إلى حنا مينة إلى شوقي الماجري إلى العشرات ممن ذكرت أو لم أذكر … اليوم و بعد انقلاب التسعينات صاروا يتهربون منكم كالجذام أو كالجرب … و انفجر بركان العنصرية هناك و الكراهية عليكم و على كل من يتشبه بكم و لو من بعيد … و قد تراوح ذلك من مجازر البوسنة إلى التعامل الوحشي مع السوريين في المجر و ذلك كان أضعف الإيمان …
إذن ما دام الكل يعرف الكل، فلا فائدة في النواح على حقوق أوكرانيا و سيادتها و حريتها فنحن قوم لا سيادة لنا و لم نكن قط معنيين بالحقوق و الحريات إلا شفاهة … قولوا إننا هناك كمن يقوم بواجب العزاء في جنازة لا يعرف صاحبها، و لكن له فكرة عن الكبراء الذين سيجدهم في مقبرة الجلاّز يوم الدفن … سيجد أعيانا ومدراء و ربما وزراء و معهم كاميرا شريط الأنباء، و قد تكون هناك فرصة للتعارف أو التقرّب أو تسريب توصية أو تحصيل منفعة … في الجنازة الأوكرانية أيضا، البحث يكون أولا عن عيون القوى العظمى … فإن لم نكسب منها شيئا، على الأقل نتقي من غضبها على غياب محتمل …
و من أوكرانيا البعيدة إلى عاصمتنا القريبة أو إلى بابين منها: باب سعدون و باب بنات … في الباب الأول حيث توجد المحكمة العسكرية، هذه المحكمة لتي قضت بحبس وزير سابق تلبّس بتحريض القوات المسلحة على العصيان … فقامت القيامة لا ضدّ هذا الشخص المبشر بحرب أهلية، بل ضد من حاسبوه على صنيعه الضارّ … و السبب ليس لأن التحريض من الصفات الحميدة، بل لأنه تمّ في ظروف سياسية و حزبية تخدم تلك الأطراف … هم عندهم معركة (معلنة) مع رئيس الدولة، و قد تصاعدت على ما يبدو إلى درجة الدعوة إلى إزاحته بالقوة … نعم … و لا يهمّ في الأثناء إن اشتعلت البلاد و سقط آلاف الضحايا و حصل انقلاب عسكري لا أحد يعلم عواقبه على الجميع … ملاحظة: نفس الخطاب قاله سيناتور أمريكي البارحة في شأن الرئيس بوتين !
و من العجيب أنه تمّ حشر سلك المحاماة في هذه المعركة، كيف؟ … فجأة تذكر هذا الفصيل السياسي (والحزبي) أن الوزير المسجون كان في إحدى الفترات عميدا للمحامين … أقول “كان” و ذلك منذ عهد بعيد ولمدة سنة واحدة، قطعها مسرعا حينما عُرض عليه منصب وزير شكلي في أول حكومة نادت عليه … و توالى بعده العمداء و النقباء، و توالت منه المواقف الأقرب إلى السياسة السياسوية منها إلى تمثيل المحامين التونسيين … و انتُهِكت محاماتنا منذ تلك الفترة و تعرض أفرادها للضرب و التهديد و الإيقاف و حتى الاغتيال … و مضى “عميدنا” السابق في مجراه المصلحي لا يلوي على شيء …
الآن و بعد موقف سياسي اتخذه انحيازا لأحد الأطراف، و موقف جنائي عوقب عليه و قد يخرج منه كما خرج غيره … بعد هذا، ينبري جمع من المنتمين لأحد أعرق و أمجد أسلاكنا و يرفع لافتة حماية المحاماة في توظيف وصولي رخيص، لا علاقة له بمهنة بورقيبة و بن يوسف و البحري قيقة و أحمد المستيري و عمار الدخلاوي و عبادة الكافي و شكري بالعيد … و يصل الأمر حتى إلى الاعتداء على العميد الحقيقي و الشرعي الحالي لمحاماة تونس … و انتهاك مكتبه الذي هو مكتب كل المحامين و ملجؤهم، من أناس ينتمون للمهنة أو لا ينتمون إليها … و هي براء منهم في كلا الحالين …