تمرّ البلاد منذ 25 جويلية، اليوم الذي استولى عليه ساكن قرطاج ليجعل منه “رمزية” لعهدته…أقول تمرّ البلاد بضجيج كبير وهرج ومرج ولا أحد في البلاد يسمع الآخر…ولا أحد يدري ما يدور بالضبط في البلاد وفي مخيّلة وفكر الآخر…وكأني بساكن قرطاج أو البعض الآخر ممن لا نراهم يريدون أن يصنعوا “واوا” في عقول هذا الشعب…
فساكن قرطاج صنع “واوه” منذ جلوسه على كرسي قرطاج…واضاع بوصلة خصومه وبقية الشعب…فهو لم يترك أحدا لم يُعادِه …ولم يستثن أحدا من ويله وثبوره…حتى من صفقوا له ورقصوا ليلة السادس والعشرين من “جويلية المخدوع” لم يسلموا من قاذفات صواريخه وخُطبه العنقودية…وكأني بالأحداث تتسارع هذه الأيام لتخلط الأوراق من جديد، ولا أحد يعلم من يفعلها ولصالح من؟ وكأني بالبعض يريد جرّ البلاد إلى ما هو أسوأ…فهل ثمّة حقّا ما هو أسوأ مما تعيشه البلاد اليوم في عهد مولانا؟
صناعة “الواو” أصبحت كالـــ”واوا” أغنية هيفاء وهبي مثيرة الذكر…و”الواو” أو “الواوا” هي في لعبة السياسة والساسة صناعة حديثة هدفها الأول ضرب الاستقرار بخلق الشك في قلوب الجميع…فتسارع الأحداث في الأيام الأخيرة…والكمّ الهائل من الاشاعات والأخبار الزائفة الذي غطّت المشهد السياسي ..وانتشار الكذب المجاني ومدفوع الأجر من أنصار ساكن قرطاج ومريديه، ومن خصومه، وجهات أخرى لا نعلمها، مثير للريبة والشكّ وقد يكون مقدّمة لأحداث خطيرة قد تخلط الأوراق من جديد، وتدخل البلاد في دوّامة من العنف والعنف المضاد…سواء كان عنفا ماديا أو لفظيا…فساكن قرطاج لم ينجح في إدارة الشأن العام وإدارة الأزمة منذ استحواذه على كل تفاصيل ومفاصل الحكم … وفشل في كل ما أتاه…فهو اكتفى بصناعة الأعداء والترويج للمدينة الفاضلة، رغم علمه بأن الزمن الذي نعيش لا يقبل ولا يؤمن بالأساطير، ولا بروايات الخيال العلمي والفلسفي…
فالمواطن التونسي أصبح ينتظر يوميا حلقة من مسلسل خطب وتدخلات ساكن قرطاج، فهذا الأخير يستغل كل مناسبة يستشعر فيها وجود “مصدح” أمامه ليكيل لخصومه التهم تلو التهم والتحديات تلو التحديات شعاره في ذلك “التعبيرة” الشهيرة لشعب الجارة ليبيا أيام حكم القذافي “تحدّى وزيد تحدى وحتى الشهر التاسع شدّه”، فساكن قرطاج يكيل التهم يوميا دون ذكر أسماء من يعنيهم بما يطلقه من قنابل عنقودية، ودون أي دليل قانوني يؤكّد تُهمه، فالرجل لم يلتفت يوما إلى مشاغل الشعب وهمومه بل اكتفى يوميا بالتهديد والوعيد وشيطنة خصومه في محاولة منه للظهور بمظهر الواعظ وأستاذ الجميع…وكأنه الآتي لتوّه من مدينة افلاطون الفاضلة…فالحديث اليومي لأغلب أفراد الشعب ونقاشاته في المقاهي وفي مقرّات العمل هو “شكون يقصد قيس البارح زعمة؟؟”…فهذا يشير إلى هذا والآخر يشير إلى الأخر وهكذا…فالشعب لا عمل له غير فكّ شفرة وطلاسم خطب الرئيس الناسفة…وأراهن أن لا أحد من العامة والخاصة وأهل الذكر قادر على فكّ شفرة ما يقوله الرئيس في خطبه…
اليوم لا نعرف من يحكم البلاد فعليا…ولا نعرف من يتصرّف فعليا في شؤون الدولة…فلا أحد يعرف من يقود البلاد…ومن ينصح من يقود البلاد…ومن يستشيرهم من يقود البلاد…فأغلب الأحداث التي تقع يوميا بالبلاد لا أحد يعرف من أمر بها، ولا من خطّط لها، ولا حتى من أخذ قرار تنفيذها…قرارات غريبة ومجهولة الهوية…لا أحد يعلم من وراء الإعلان عنها، ولا من وراء دراسة تبعاتها واسقاطاتها…فكل القرارات لا هدف من ورائها غير إسعاد فئة معيّنة من أبناء هذا الشعب…وكأني بموجة جديدة من الثأر والانتقام بصدد الإعداد للتغطية على فشل فظيع وغير مسبوق في تسيير شؤون الدولة وإخراجها مما هي فيه…
يستمع الشعب التونسي ولا يستمتع ومنذ مساء 25 جويلية إلى أغنية واحدة على نفس المقام وبنفس الأصوات…وكأني بالتاريخ عاد بنا إلى سهرات عبد الحليم وأم كلثوم في قبّة المنزه حين كان الجمهور يطالب بإعادة مقطع من مقاطع الأغنية ويلهب الحفل بالتصفيق…فقبل رأس السنة وقع اقتياد نور الدين البحيري إلى وجهة غير معلومة أو احدى “الغرف المظلمة” التي لا أحد غير من اقتاده يعرف مكانها…فخرج جمهور ساكن قرطاج ومن معه من الفرقة النحاسية وجمهور “الفيراج” من الفرقة الماسية، وفتات الأحزاب التي تشظّت آليا يوم 25 جويلية طمعا في “عسل” قرطاج وما سيجوده عليهم ساكنه …اقول خرج علينا جمهور “السح ادح امبو” ليصرخ “عاود …عاود”…وكأني به يقول “اللي بعدو…” وأغرق مشهد التواصل الاجتماعي بقائمات من القيادات التي يزعمون أنه تمّ ايقافها، وأن التحقيق بدأ في عناصر ما سُمي بالأمن الموازي…فوقع تحويل وجهة نسبة كبيرة من الشعب التونسي إلى البحث عن أخبار الإيقافات، وأصبحوا يطالبون بالمزيد من الأخبار في هذا الشأن ونسوا أمر قانون المالية الأعرج، وبقية مشاغل وهموم الشعب منكود الحظّ…وديون الدولة…وانخرام كل التوازنات…والتصنيف المذلّ لبلادنا….وغيرها مما نعانيه…
صراخ هذا الجمهور ومطالبته بإعادة “مقطع” إيقاف البحيري هو ما سيعوّل عليه ساكن قرطاج مستقبلا، كلما وجد نفسه في مأزق لا يحسد عليه…وهو اليوم في ذلك المكان الذي لا أظنّ أن أحدا سيحسده عليه…فقانون المالية هو فضيحة من فضائح تونس التي كنّا نخالها حديثة…والتخبّط الذي تعيشه البلاد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا هو أيضا المطبّ الذي لم ينجح ساكن قرطاج في تجاوزه، ولا حتى في طمأنة الشعب بمصيره…فمنظومة الاستشارة “العرجاء” لم تتوفر للجمهور العريض في الموعد المحدّد…والمحوّر الجديد من الوباء بدأ يدقّ أبوابنا ويطالب بفتح الباب للولوج إلى أجسادنا…وساكن قرطاج اكتفى ويكتفي بالبحث عمّا يسعد جمهوره الوفي لينفّذه في أيام شدّته و”أيام الغصرة”…وأذكر كما يذكر من هم في مثل سنّي أو أكثر، كيف أن عبد الحليم أعاد مقطع “خايف ومشيت وانا خايف …خايف على فرحة قلبي …خايف على شوقي وحبّي” من أغنية زي الهوى أكثر من عشر مرّات في احدى حفلاته إلى درجة أن أحد المتفرجين صاح في وجهه “خايف من ايه يا ابني يا عبد الحليم ؟؟”…
وأظنّ أن ساكن قرطاج سيلجأ إلى إيقاف أو اقتياد أحد قيادات حركة النهضة، أو ائتلاف الكرامة مع كل فشل جديد في إدارته لشؤون الدولة وأزمتها ليحوّل وجهة الأنظار عنها…والخوف كل الخوف أن يقع اقتياد كل أعضاء المكتب التنفيذي لحركة النهضة إلى مكان غير معلوم قبل أن ينتهي مسلسل الفشل…فهل سيلجأ ساكن قرطاج إلى بقية الخصوم وإيقاف قياداتهم، واقتيادهم إلى أماكن مجهولة حين تشتدّ الأزمة، ويصبح التعايش معها مستحيلا، وحين ينتهي من إيقاف كل قيادات حركة النهضة…فنحن على أبواب موسم الحراك الاجتماعي الموسمي، وقد يصل الحراك إلى كل مدن البلاد من شمالها إلى جنوبها، فعمّن سيصفّق جمهور ساكن قرطاج؟ وماذا سيفعل هذا الأخير لتحويل وجهة شعبه الذي أصبح يريد شيئا آخر غير ما كان يريد…فماذا لو لم يبق أمامه قيادي من الحجم الثقيل بحركة النهضة ومن معها من خصومه وألدّ أعدائه يدير رقاب جمهوره المتعطّش للشماتة والتنكيل بخصومه؟ فهل سيختار مواجهة الشعب؟ لا أظنّ، فتجربة 14 جانفي أثبتت أن تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي يحقّ لها أن تفاخر بمؤسستيها الأمنية والعسكرية…وحيادهما في كل الأزمات الكبرى التي مرّت بها البلاد، وحفاظهما على وحدة تراب الوطن…
فمن يا ترى سيغنّي للآخر في قادم الأيام أو الأسابيع ” ليك الواوا… بوس الواوا …خلي الواوا يصح..” جمهور قيس سعيد وأنصاره وأتباعه ومن ينتظرون العسل من يديه…أم حركة النهضة وبقية خصومه ومن تشتّت شملهم…؟؟