“عندما يسُوء كل شيء، يرتقي التفاؤل إلى درجة الواجب الوطني”
جدول الأوقات في مئات المدارس الألمانية قد يكون على النحو التالي : الاثنين 24 أكتوبر، الثامنة صباحا : درس في الحساب يليه درس في الألمانية ثمّ درس ثالث في السعادة… وهو درس نظامي إجباري يدوم ساعة كل أسبوع في المرحلتين الابتدائية والإعدادية.
أليست سعادة حقيقية هذه أن ترى ابنتك أو ابنك يحضُر درسا إجباريا يُؤمّنه معلّم أو أستاذ تلقّى تكوينا خصوصيّا لمدة سنة كاملة بالإضافة إلى تكوينه الأساسي في مجال التدريس، ويتعلّم خلاله كيف يكون مُتصالحا مع ذاته ومع أقرانه وكيف يكون قويّا في وجه الاحباطات التي تعترضه ؟
أؤكّد بشكل متعمّد على التكوين الأكاديمي والعلمي المختصّ لمن يتولّى تدريس هذه المادّة في ألمانيا والنمسا للتفريق منذ البداية بين “تنمية الذات” كمفهوم علمي أسّس له عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو مُطلِقا عليه “تحقيق الذات” في أعلى هرم الحاجيات البشرية (وهو حاجة الفرد إلى تحقيق ذاته مُوظّفا كل مُقدّراته) وبين “التفكير الإيجابي” و “علم النفس الإيجابي” اللذين تدعو لهما الخيمات الدعويّة للتنمية البشرية التي تؤسّس لتيار فكري كوني يلقى رواجا كبيرا اليوم خاصة بين النفوس المرتجّة يسمّونه “السعادوقراطية” happycratie أي أن تكون سعيدا رغما عنك ورغم ظروفك.
يقول الصحفي الفرنسي جان لوران كاسيلي الذي ألّف كتابا حول موضوع مغالطات التنمية البشرية: “خلال الفترة التي تلت أزمة 2008 والتي تعمّقت فيها الفوارق وتقلصت فيها حظوظ الحركية الاجتماعية وانكمش فيها سوق العمل، أصبحت الدعوة إلى التحلي بالحماس والإيجابية والاستقلالية عبارة عن تحميل الأفراد مسؤولية كل التوازنات المختلة”.
وُلدت فكرة بعث دروس نظامية في السعادة بمدينة هايدلبرغ (عاصمة الرومانسية في ألمانيا التي ألهمت الشاعر الكبير هولدرلين وحيث توجد أعرق الجامعات التي يؤمّها بعض المتفوّقين التونسيين من شعبة الرياضيات) على يد إرنست فريتز شوبرت الذي مارس مهنة التدريس لمدة ثلاثين عاما قبل أن يؤسس معهدا متخصّصا يُكوّن المدرسين في مجال تقنيات تدريس السعادة .
وهذا نص الحوار الذي أُجري مع مؤسّس هذا الدرس في أحد المواقع الرسمية الألمانية :
سؤال : كيف خطرت ببالك هذه الفكرة ؟ وهل من الضروري أن نُعلّم تلاميذنا في ألمانيا كيف يتحسّسون السعادة ؟
جواب فريتز شوبيرت :
كنت حينها (بدايات القرن الحالي) مدرّسا منذ ثلاثين عاما وكان واضحا لديّ أن التلاميذ لا يتمثّلون المدرسة كفضاء يهِبُهم بعض السعادة بالرغم من أن دور المدرسة بالنسبة إليّ ليس محمولا فقط على بلوغ أهداف أكاديمية، بل كذلك على إيقاظ بهجة التعلم وجعل شُعلة الإقبال على التعلّم متّقدة بشكل مستمرّ…. أعتقد أن المدرسة غالبا ما تُجرّدنا من الفضول والاندهاش. وعكس كل تأكيدات المعارف في علم النفس، كثيرون هم المدرّسون الذين يعاملون تلامذتهم باعتبارهم “آلات للتعلّم” تُعيد إنتاج محتويات معيّنة. بينما لو اعتبر المعلّمون أنه يتعين عليهم البحث عن الكنوز بدلا من البحث عن الأخطاء لاستفاد الطرفان. كنت منشغلا خاصة بالتلاميذ القادمين من أوساط اجتماعية متواضعة والمتأثرين بشكل سلبي جدا على مستوى علاقتهم بالمدرسة حتى فقدوا تماما متعة التعلم. دروس السعادة تصلح لتأكيد الشخصية وإحكامها وعديد الدراسات تُظهر أن الأشخاص الفرحين والمُبتهجين يتخاصمون أقل ويكونون في حالة صحية ونفسية أفضل ويستوعبون أكثر ويبدعون أحسن.
سؤال : ما هو برنامج دروس السّعادة ؟
جواب : أن تكون مسرورا ومتملّكا للكفايات الاجتماعية الأساسية، هذه هي غاية دروس السعادة. ويتضمن ذلك، البحث الدائم عن المعنى وحرية الفعل وأن تُحسّ بالأمان وأن تبني علاقات اجتماعية نقية وأن تتعلّم كيف تتآلف مع ذاتك وتسيطر على المحيط وتُنمّي شخصيتك.
ويمكن تنظيم كل هذا ضمن أربع أسئلة : من أنا ؟ ما هي حاجياتي ؟ ما الذي أقدر على فعله ؟ ماذا أريد ؟ يتعلم التلاميذ كيف يكونون واعين بأحلامهم وحاجياتهم، وكيف يبلورون أهدافا انطلاقا من ذلك والبحث عن الوسائل والإمكانيات الكفيلة ببلوغها. لكنهم يتناولون أيضا الفشل ومواطن القصور في ما يأتونه من أفعال وتمارين. فمن المهم التدريب بشكل مُبكّر على التصرف في الفشل واعتباره فرصة ثمينة حتى يكون الفرد قادرا على مواجهة تحديات اللاحقة.
سؤال : كيف تُشبّه ساعة درس في السعادة ؟
جواب : تبيّن أنه من المُجدي المزج بين المعارف النفسية والتمارين التطبيقية التي تستهدف نقاطا حساسة من أجل ترسيخها بشكل أفضل في الذهن. أحد تلاميذي يُعرّف الدرس على النحو التالي : “ما يُعلّموننا إياه في درس القيم والأخلاق، نتدرّب عليه في درس السعادة“. بالنسبة إلى تلاميذ الابتدائي، هنالك تمرين جيد لتكريس قيمة تثمين الذات: طفل جالس والآخرون يمرّون ويهْمِسون بكلام عذب وطيب في أذنه. وتكون النتيجة أن الأغلبية المطلقة من التلاميذ يشعرون بمتعة كبيرة في تلقّي المجاملات أو إرسالها ويكتشفون أن الانسان يشعر بالقرف عندما يوجّه ملاحظات مُهينة نحو الآخرين. أما بالنسبة إلى الإعدادي، فقد ابتكرت لعبة “معبد الفضائل” التي تتأسس على تعليم الفضيلة على طريقة أرسطو (حلّ المشكلات والصعوبات المتأتية من الاعتقادات السائدة حول موضوع ما) يقوم خلالها التلاميذ بتحديد ملمحهم الشخصي ويحاولون تحسّس مواطن القوة في مزاجهم.
سؤال : ما هو أثر دروس السعادة على الناشئة ؟
جواب : المتابعة العلمية تؤكد أن التلاميذ يُطوّرون تثمينا أفضل للذات ويُعبّرون عن تفهّم وانفتاح أكبر على بعضهم البعض ويجرؤون بشكل أوضح ويتابعون أهدافهم بتفاؤل بيّن. واللافت أيضا أن التلاميذ يكتشفون خصالا في شخصيتهم هم غير واعين بها.
سؤال : كم من مدرسة تبنّت هذا المنوال ؟
جواب : مئات المدارس في ألمانيا ومثلها في النمسا وكونّا منذ 2009 أكثر من 700 من المدرّسين المختصّين في معهد فريتز شوبيرت.
ثلاث حقائق ذات دلالة مؤسِّسة أستشفّها شخصيا من خلال هذه التجربة الألمانية :
أولا : السعادة ليست غُنمًا شخصيا بل هي نسيج من الوشائج ذات البُعد الاجتماعي والعلائقي قبل كل شيء.
ثانيا : البهجة والسعادة ومتعة التعلّم وجودة الحياة المدرسية… مصطلحات وقيمٌ لا أثر لها مُطلقا في نصوصنا القانونية والتوجيهية للتربية، بل أكثر ما يشدّ انتباهنا فيها هو “التصدي لظواهر العنف والإدمان والتنمّر والغشّ وسوء الأخلاق والسلوك…” أي كل ما هو سلبي وباعث على الإحباط.
ثالثا : العالم ليس بحاجة إلى أدلّة إضافية لتأكيد أن النجاح المدرسي مرتبط في جزء كبير منه بطبيعة العلاقات الاجتماعية مع العائلة والأقران والمُدرّسين، وكذلك بالصحة النفسية وحقيقة المشاعر التي تمتلئ بها الناشئة حيال الطرق المؤدّية إلى المدرسة والإحساس بالانتماء إليها. فالاقتدارات المعرفية مهمّة ولكن نجاح التلاميذ مرتهن أيضا بمنسوب رفاههم وراحتهم النفسية داخل الفضاء المدرسي.