يقول تعالى ” وجعلنا من الماء كل شيء حيّ”. تذكرت هذه الآية الكريمة حينما اطلعت على خبر الترفيع في سعر المياه… و يبدو أن مسؤولينا و أصحاب القرار عندنا من أشد المؤمنين بها… فحياة الشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه .. و حياة جيش الموظفين الذين تضمهم و حياة امتيازاتهم و منحهم و ” بونواتهم” تمر عبر الترفيع في سعر المياه فمَن سيدفع ذلك غير المواطن و من سيغطي النفقات غير جيب المواطن بمضاعفة تسعيرة المياه…
ستدّعي الدولة أن الترفيع في الأسعار هو آلية من آليات ترشيد الاستهلاك… و لكن هل سبقته آليات أخرى حتى نطمئنّ إلى هذا التبرير؟ هل قامت بحملات توعية أو إرشاد للمستهلكين… هل عوّضت الحنفيات في المؤسسات العمومية بأخرى مقتصدة حتى تتحدث عن الترشيد؟ هل يسارع عمال ” السوناد ” إلى إصلاح الأعطاب متى حصلت حتى لا تُهدر المياه عبثا ؟ …. هل سمعتم بربّكم عن إجراء كهذا قبل أن تعمد الدولة إلى مضاعفة أسعار الاستهلاك؟ و لكن يبدو أن جيب المواطن هو ” كي العادة، البهيم القصيّر”….
حينما اطلعت على خبر الترفيع في سعر المياه تذكرت أيضا صورة شاهدتها منذ أسابيع و أصابتني حينها بحالة من الضحك الهستيري حينما قرأت عبارة حلال على نوعية معينة من قوارير المياه المعلّبة، سرعان ما استفقت منها لتتحول إلى ألم و كآبة و أنا ألحظ التغيرات الحاصلة في هذا المجتمع و عملية الأدلجة المتواصلة و التي طالت كل شي… مياه حلال شأنها في ذلك شأن الحزب البورقيبي البلعيدي الحر… ” شكشوكة بالمايوناز ” فمن كان يظن يوما أن الماء يمكن أن يخضع لمعايير التحريم و التحليل و من أسند شهادة “حلال” للماء ؟ هل يكون المفتي مثلا ؟ و هل يعني ذلك أن النوعيات الأخرى التي نستهلكها حرام ؟ و متى سنجد خبزا حلالا أو حتى بقدونسا أو دلاعا حلالا ؟ و لكن نظرة سريعة إلى واقعنا برهنت لي على وجاهة هذا الطرح…..
نعم أصحاب الشركة عندهم ألف حق فقد يكون أصل التسمية راجعا إلى حصولهم على رخصة استغلال العين حلالا دون رشوة أو تدخلات و عمولات تدفع تحت الطاولة و فوق الطاولة… أو قد تكون العين نفسها حلالا بعد أن اكتشفنا أنّ ما يسيل في حنفياتنا لا يمكن أن يكون حلالا فالماء المُلوَّن الذي تصاحبه روائح كريهة و الذي توزعه علينا الشركة التونسية لاستغلال و ترويع المواطن لا يمكن أبدا أن يكون حلالا. و ما الأنباء المتتالية _ خاصة ما أثاره النائب بدر الدين القمودي _ عن عدم تعهّد الدولة بصيانة السدود و قنوات التوزيع و تلوث مياهها و اختلاطها بمياه الصرف الصحي إلا خير دليل على هذا التغيير في اللون و الرائحة و الطعم
إلى درجة أنّ أحد تلاميذ الابتدائي احتجّ يوما على معلمته معترضا على تعريف الماء الذي قدّمته لهم حينما قالت بأنه لا لون له و لا طعم و لا رائحة ( و بالمناسبة فقد تنبّأ له جميع من استمع إلى القصة بأنه سيكون رمزا من رموز المعارضة التونسية) إن المياه التي توزّعها ” الشركة التونسية لاستبلاه و ترويع المواطن” لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون صالحة للشرب … و بعضنا لا يستطيع أحيانا أن يغتسل بها أو أن يغسل الأواني في بيته و لكن الكثيرين بسبب الفقر و الحاجة يجدون أنفسهم مضطرين إلى شربها – إن وجدوها طبعا – بعد أن أضحت مناطق عدة تمضي أياما و أسابيع دون قطرة ماء واحدة و جميعنا يذكر عيد الأضحى الذي قضاه أغلب التونسيين دون ماء…
و لو كنا فعلا نعيش في دولة القانون لتمّت محاسبة المسؤولين على تهاونهم بصحة المواطن و بمستقبل أجيال كاملة، فما كانت تعاني منه بلدان قريبة منا في سنوات الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي من كوليرا و تيفوئيد و التهاب كبدي و غيرها من الأمراض التي يسبّبها تلوث المياه، سيعاني منه شعبنا في النصف الثاني من القرن الحادي و العشرين بسبب استهتار أصحاب القرار … فالانسان في هذه الربوع آخر اهتمامات أهل السلطة و لا أحد يوليه أية قيمة و لا يلتفتون إليه إلا زمن الانتخابات فيصير مواطنا عزيزا و مبجلا و يتسابق الجميع لإغرائه و إرضائه بمعسول الكلام و يكاد بعضهم بأن يعده بأن يغسل له رجليه قبل النوم إن وافق أن يصير رقما انتخابيا في صندوقه…. ثم لا يلتفتون إليه بعد أن يصلوا إلى كراسيهم و يلتصقوا بها..
فهل احتجّ أي من النواب اليوم على قرار الترفيع هذا؟ و هل التفتوا إلى قفة المواطن يعود بها فارغة إلى البيت بسبب تدهور قدرته الشرائية و التهاب الأسعار؟ و هل اهتمّوا بالوضع الوبائي الخطير و الأرواح التي تحصد يوميا؟ و هل ندّدوا بتدنّي مستوى التعليم و تراجع التكوين في السنوات الأخيرة ؟ و هل انتبهوا إلى قوارب الموت تحمل كل يائس من الحياة في هذه الربوع… و ليعذرني السادة المحترمون على أسئلتي العبثية و ليعودوا هانئين إلى مهاتراتهم و تسريباتهم و معاركهم البهلوانية…
لا أحد ينكر أن أزمة المياه تكاد تكون عالمية و أنّ تونس تعيش تحت خط الفقر المائي و نصيب الفرد فيها أقل من 500 متر مكعب سنويا و أن التغيرات المناخية و نقص الأمطار ساهم في تدهور الوضع. و لكنّ حكوماتنا المتعاقبة و التي لم أعد قادرة على إحصائها منذ جانفي 2011 إلى اليوم و فيالق الوزراء و المستشارين و النواب الذين تداولوا علينا يتعاملون مع الدولة بمنطق ” خدام الحزام” لنعيش على شعار ” كل نهار و نهاره” فلا صيانة للسدود و لا خطة مستقبلية لمجابهة الجفاف و العطش و لا نظرة استشرافية للمستقبل و لا تخطيط لمصلحة الأجيال القادمة.. فأين محطات تحلية المياه التي طالما وعدونا بإنشائها و أين تغيير استراتيجيات الزراعة و الري من أجل الاقتصاد في المياه و توفير الموارد و أين البحث عن حلول للمنشآت السياحية؟!
إن في تجارب العديد من البلدان المشابهة لنا نماذج يمكن أن نحتذيَ بها و إن في بلادنا عددا هامّا من المهندسين المتميزين الذين يمكن أن يستعين بهم أهل الحل و العقد لإصلاح وضعنا فمتى نغير طريقة تفكيرنا حتى تتجسّد الآية ” و جعلنا من الماء كل شيء حي ” قولا و فعلا و يعود الماء مصدر حياة للشعب.. و لا يصرخ يوميا ” ماء… ماااااء”