ماذا نقول لـــ 2023 ؟ سنبني تونس التي نُريد أحببْتِ أم أبيْت
نشرت
قبل سنتين
في
“الماضي من التاريخ، والمستقبل غامض ومُفعم بالتساؤل، أما اليوم فهو هِبَة حقيقية لذلك نسمّيه حاضرا” الأمريكية إيليانور روزفلت.
ليس لديّ شخصيا أيّ وهم في أن نرفع – بمجرّد أمنيات وصلوات استسعاد– سنة حالكة ونستبدلها فجأة بأخرى تكون أقل ضراوة وأكثر غبطة. لكن ذلك لا يمنعني من الاستبشار والتلويح بكل ثقة أن السنة الجديدة ستكون أرحم من سابقتها شاءت أم أبت وستكون حُبلى بكل معاني الفرحة والخروج من النفق المظلم الذي أبحرنا في ثناياه بالرغم عنّا وبالرغبة منّا أحيانا أخرى.
أكاد أتحدّى السنة الجديدة أن تقدر على محاكاة ما فعلتهُ بنا سابقتها وأن تحفر أكثر من هذا في جروحنا الغائرة، وأن يكون لديها من طاقة زرع الإحباط ما هو أوفر مما اختزنته سنة 2022.
أنا مُصرّ على تفاؤلي وتعهّده رغم الصعوبات والتحديات الجبلية التي تواجهها بلادنا في هذه اللحظة الفاصلة بين عامين، والفاصلة أيضا بين وضع أزّمته أحزاب وقطعان ومجموعات حكمت بكل ما لديها من غُلّ وحقد ونهم وعطش إلى مُراكمة الغنائم لا يرتوي، ووضع لم يقدر الماسكون به اليوم على الارتقاء به وتطويق آثار الإعصار الذي مرّ على البلاد وإعادة ترتيب البيت التونسي البديع في أصله… حتى بات وضعا يُنذر بكل الأخطار … التي لن أعدّدها لوقعها المُدمّر على كياننا الذي أنهكته الجوائح والذبائح.
متفائل بشكل “غير ساذج” لاعتبارات موضوعية أعتبرها غير متنافرة كثيرا مع واقعنا :
أولا : يقول أسلافنا ان الأوقات الصّعبة يتعيّن التعامل معها على أنها مجرد عواصف لا تُعمّر أبديا وسرعان ما يخرج الناس في يوم الغد يتفقدون محاصيلهم ومواشيهم ووضع جيرانهم، وأن الحياة لا تختار أبدا عوضا عنّا لأننا نحن القيادة الوحيدة لسفينة حياتنا. “فلدينا الحرية في أن نَعبُر العاصفة إلى غاية تلك الضفاف المجهولة والعذراء وذات البهاء الأزلي حيث تكون كل الأحلام مُمكنة” على حدّ قول الروائي كومباس.
وبالتالي، فإن الوضع الاستثنائي الراهن لن يطول أكثر من هذا، حركة التاريخ ترفض ذلك… لقد حان الوقت لانقشاع الغيوم واستقرار الأوضاع مجددا، حتى وإن كانت كُلفة الترميم وإعادة البناء باهظة جدا وتتجاوز إمكانيات دولة تضافرت عليها عدم كفاءة مُسيّريها وأزمات الوضع العالمي المتهالك.
ثانيا : لو نتعامل بشيء من التنسيب والإيجابية مع الوضع التونسي خلال السنوات الأخيرة بعد 2011، لقلنا ان التونسيين عاشوا خلال 10 سنوات ما تعيشه الشعوب الأخرى خلال مئات السنين، إذ تسنّى لهم أن يتعاملوا مع كل الرّهوط وشتى أنواع خطابات البلّوط، وتيسّر لهم تجريب كل أنواع الانتخابات والهيئات والاستفتاءات والاستشارات وأصناف الدساتير حتى فقدوا الثقة في مُخرجات الصناديق ولمعان المساحيق. عايشنا كل شيء تقريبا وألِفناهُ وقدَرنا على استيعاب أبشع الوقائع وأتعس المآلات (دون التصالح معها) : ألم يدفع الشعب التونسي من عظمه ولحمه ملايين الدولارات تعويضا للأمريكان على احتراق سفارتهم على يد كمشة من اللحي المأجورة التي تحميها وزارة الداخلية ؟ ألم يسكن الإرهاب المسلح ديارنا ومصحّاتنا ؟ ألم تكن تونس منطقة عبور لكل مجرمي العالم المتجهين إلى سوريا والعراق وليبيا ؟ ألم نساهم في تدمير ليبيا وسوريا ؟ ألم يكن وزراؤنا يصوّرون إلى جانب أحذية زوجة رئيس أسبق تعبيرا عن ثوريّتهم البِكر ؟ … بعد كل هذه الفظاعات وغيرها (التي لا أعتقد أن شعبا واحدا في العالم عاش مثلها في ظرف تاريخي وجيز جدا)، لا أعتقد أن القدَر مازال يُخفي بشاعات أخرى، لأنه أفرغ كل ما في حقيبته كما أفرغ السيد نُويل حقيبة هداياه وعطاياه في موفى 2022.
أين هم كل أولئك الذين شمتوا فينا وأعدّوا لنا المشانق والمقاصل وبدؤوا في تخزين الأسيد الحارق لرش السيقان النسوية العارية ؟ لا أثر لهم حتى وإن مازالوا على قيد الاستعداد للتّخريب، لكنّهم قُبروا نهائيّا في ذهنيّة التونسي… الذي قطع بشكل حاسم مع أغلب العناوين والأصول التجارية التي دمّرت الشعوب تاريخيا : الاتجار بالأخلاق وتوظيف الأديان ومقولات “الوطن فوق الأحزاب” الكاذبة وكذلك الوقوف في صفّ الفقراء والمساكين.
لم يبقَ أمام الجميع إلا عنوان واحد : عنوان “قالّو حصاني يصفّ السّدرة ; قالّو هذا حصانك و هاذي السّدرة“، بمعنى أن كل الحظائر مفتوحة على مصراعيها في الوقت الحالي وتتطلب معالجتها أيادي ماهرة وعقولا استباقية وروحا وطنية خالصة تُخلّص البلاد ممّا تردّت فيه…ولكن بشكل ميداني ليرى التونسيون نتائج الإصلاح ومعالجة الملفات الكبرى على الأرض ضمن آجال منظورة.
ثالثا : الاعتبار الثالث الذي يجعلني متمترسا في تفاؤلي ومتوقّعا أن بلادنا ستنتصر قريبا على نفسها، هو اقتناعي الراسخ بأن بلادا يعرفها العالم بأسره بكونها بلادا تزدهر فيها الكفاءات بأنواعها (وخاصة في الطب والهندسة والرقميات وتسيير المؤسسات المالية والبنكية والخبرات الفلاحية والحديدية – نسبة إلى سكك الحديد- حيث تُبنى اليوم أرضية القطارات والميترو في بلدان الخليج بكفاءات تونسية، الخ…). وتُعرف كونيّا كذلك بأنها بلاد-حديقة تتّسع لكل ما تشتهي العين وسقف الحلق من غلال وفواكه وحبوب وأشجار وثمار تكفي لإعاشة لا التونسيين فقط بل جزء كبير من الانسانية. نعم تونس يعرفها العالم المتحضّر بأنها أنجبت أسماء عُظماء تركوا بصماتهم المحفورة في صفحات كتاب الانسانية جمعاء وبأنها بلد صغير يُنافس على أولى المراتب في كل المسابقات الرياضية وبأنها رقعة جغرافية ضئيلة طموحها وأحلام أبنائها أوسع من مساحتها.
بلاد بهذه الصورة وهذا الزخم وخاصة بهذه الحصانة المُكتسبة بعد سنوات دهريّة من العبث المنظّم لا يمكن أن تسقط. وحالة اللادولة لا يمكن أن تستمر. ومناخات التوتر السياسي الدائم لا يمكن أن تتواصل إلى ما لا نهاية. والجُرعات الانتخابية والدستورية اللامتناهية باتت فاقدة لأية مشروعية لأنها لم تقترن بأي تقدّم في مجال معيش الناس وعدد المليمات في جيوبهم.
أقول في الأخير ان التونسي الذي بَنى آلاف المدارس والمعاهد والجامعات وشيّد السّدود وآلاف الكيلومترات من الطرقات والجسور في الداخل والخارج وخرّج أفواجا وأفواجا من المهارات العلمية المطلوبة اليوم في العالم وزرع ملايين أشجار النخيل والزيتون … قدرُهُ أن يستعيد عافيته ويستبعد كل “الزوائد” على طريق صنع مجده وانتزاع مكانته التي تليق به بين شعوب العالم.