ماذا يُعلّمنا عالم الفلك ومُبسّط العلوم… هوبرت ريفز ؟
نشرت
قبل 9 أشهر
في
رحل عن هذا العالم في صمت يوم 13 أكتوبر 2023 الماضي باحث كبير في علم الفلك نذر حياته لسبر أغوار الكون وتبسيط أكثر العلوم تعقيدا لعامّة الناس، وجعلهم يتصالحون مع الطبيعة ومع المحيط الواسع الذي يُقيمون فيه. هو هوبرت ريفز الكندي-الفرنسي الذي كان رئيسا لجمعية “الإنسانية والتنوع البيولوجي”، وكان مناضلا ميدانيا من أجل المحافظة على شروط الحياة فوق الأرض وإشاعة ثقافة الفُضول والسؤال.
يُعلّمنا هوبرت ريفز، الرجل الذي نذر حياته لمراقبة النجوم والشّهب في السماء لكن ظلت ساقاه ملتصقتان بالأرض يذود عنها ويُدافع عن استدامة الحياة فوقها، يُعلّمنا أن القامات العلمية الشاهقة لا تُغترّ بمكانة أسمائها في سماء النجوم “الأرضية” وتتحوّل إراديّا إلى رُواةٍ يجوبون المدارس والمنابر (مثلما فعل عالم الفيزياء جورجشارباك والفيلسوف ميشال أونفري وعالم الاجتماع إدغار موران…) ليُفسّروا بشغف شديد الحقائق النسبية التي توصّلوا إلى بنائها خلال مسيرتهم البحثية والدراسية. هؤلاء لا يتقاعدون ولا ينتهي عطاؤهم بانتهاء عملهم المؤجّر في المؤسسات والهياكل الرسمية… وما إدانة موران في سن 100 وسنتيْن يوم 14 فيفري الماضي للمذبحة الجارية في غزة ضد شعبنا الفلسطيني، إلا دليل على أن هؤلاء لا تهدأ ضمائرهم إلا يوم ينطفئون.
ويعلّمنا هوبرت ريفز أصول التواضع في الدفاع عن القناعات التي توصّل إليها بحيث لا يُحرجه بالمرة أن يردّ على أحد المُعقّبين على محاضراته بكونه لا يستطيع الإجابة عن سؤاله، وأنه لا يملك أجوبة نهائية وباتّة. وتتواتر في إجاباته كل التعابير التي تفيد الشكّ والتحفّظ وعدم اليقين من جنس “أعتقد” و “يبدو لي” و “أنا غير متأكد تماما أن…” و “ربما نتعلّم ذلك في المستقبل”، إلخ…
ويُعلّمنا ريفز كذلك أنه يتعيّن إخضاع كل شيء لمصفاة التنسيب، فلا شيء مُطلق ولا شيء ثابت ولا شيء محدّد ببداية ونهاية أو كبير وصغير، لأن الكون لا متناهٍ تؤثثه ملايين المجرّات والكواكب والنجوم ولا أحد باستطاعته توقّع ما يكتنزه حقيقة هذا الكون العظيم. من أجل ذلك ربما يقول ريفز: “مثلما تجهل المرأة الحامل ملامح ما يعتمل داخل بطنها فإننا نجهل تماما أي العجائب يمكن أن تطفو من نمو التعقيد الكوني” (لاحظوا أنه يتحدث في لحظة نسبية مازالت فيها مُنجزات العلم غير قادرة على تصوير ملامح الجنين بدقّة أو رصد مكوّنات الكواكب البعيدة التي لم تبُح بكل أسرارها بعدُ). ومقابل ذلك، تتجلى النسبية أيضا في ما يسميه علماء الفيزياء بـ “عالم الغرف الصغيرة جدا في الأسفل” أي عالم النانو متناهي الصغر، وهو عالم لا محدود هو الآخر مازال العلم لم يكتشف كل تفاصيله وجميع عناصره المجهرية. ويكفي أن نُذكّر في هذا السياق بالصراع الدائرة رحاه في الوقت الحالي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وتايوان، حول الدور الحاسم التي تلعبه الرقائق الإلكترونية (المستعملة في الهواتف الذكية والآلات الطبية والسيارات وحتى الصواريخ والطائرات…) بما جعل المتابعين يُطلقون عليها “النفط الثمين الجديد”.
كما يُعلّمنا ريفز أن “العلوم الحديثة تُعتبر صرحا بديعا ومشرقا يُشرّف الجنس البشري ويُعوّض ولو قليلا عن هوْل الغباء الحربي السائد” كما يقول: “كأن يكون الإنسان اليوم في حرب ضد الطبيعة، إذا انتصر فيها هُزم شرّ هزيمة”. وهي رسالة متفائلة تُبرز أهمية فُرص التحرر والتقدم التي يُتيحها تطوّر العلوم بالرغم من توحّش الأطراف المقابلة في توظيف الاكتشافات العلمية لغايات هيمنية وتدميرية… ضد الشعوب وضد شروط الحياة نفسها فوق هذه الأرض.
من ناحية أخرى، يُعتبر ريفز من المؤمنين جدا بنظرية الكوليبري (التي يرويها في إحدى محاضراته) في علاقة بضرورة أن يقوم كل فرد بواجبه – ولو كان ضئيلا- بعدم إلحاق الضرر بالوسط الطبيعي الذي يعيش ضمنه. يُفضّل – بدلا من استدعاء معاني التفاؤل و التشاؤم- استعمال معنى الإقدام والتصميم والإيمان بعدالة القضايا التي نُدافع عنها، حيث يجب ألاّ نقول أبدا “لقد انتهى كل شيء” أو “لقد حُسم الأمر نهائيا” لأن الصراع مازال قائما على أشدّه بين القوى والسلوكات الجشعة والبشعة، وبين قوى وسلوكات أخرى تناضل وتسعى جاهدة إلى إعادة التوازن وتغليب الأنسنة على الحيْونة.
وللإقناع بذلك يستحضر ريفز مقولة الشاعر الألماني هولدرلين “حيث تنمو مخاطر الزوال والهلاك، ينمو أيضا ما يُمكن أن يُنقذ في نفس الوقت”.
وهذه بعض الأفكار الواردة في محاضرة ألقاها هوبرت ريفز يوم 04 ديسمبر 2014 وعنوانها “مستقبل الحياة فوق الأرض” يقول فيها تقريبا :
يجب ألاّ نُخفي الحقيقة ونغرس رؤوسنا في الرمل ولا بد من الإقرار بأن هنالك مخاطر حقيقية تهدّد بصفة جدية وجود الانسان على الأرض، ولكن لا بد من التشبث بالحلم في نفس الوقت من أنه ثمة دائما طريق للخلاص.
في إطار المهارة البيداغوجية في التبليغ التي يُجيدها كثيرا، يروي ريفز حكايتين أساسيتين ميّزتا المسار الطويل الذي شهده تاريخ الكون : حكاية جميلة ومُغرية وأخرى أقل إبهارا. “الحكاية الجميلة” ابتدأت منذ قُرابة 14 مليار سنة…وتهمّ النجوم والمجرّات والجزيئات لكن معرفتنا بهذه الحكاية لم تتشكل إلا حديثا منذ حوالي قرن لا أكثر وخاصة منذ اكتشاف المناظير الكبيرة التي سمحت بملاحظة تحرك المجرات والكواكب والنجوم…(إذن ليس هذا تاريخ بداية الكون بل تاريخ بداية معرفتنا بالكون).
هذا المسار التطوّري الضارب في التاريخ أعطى الإنسان جسما يتكوّن من “واحد متبوع بـ 29 صفرا” من “الكوارك والإلكترون” ليكون قادرا على الوعي بذاته وتمثّل إقامته في الكون، كأن يُغمض عينيه لبُرهة وجيزة ويقول لنفسه “أنا موجود” …وهي إحدى عجائب الطبيعة التي تبدو عادية وشكلية ولكنها ذات قيمة كبيرة إذا ما أمعنّا النظر في ما جعلها ممكنة الحدوث، على عكس ما يقوله عديد الفلاسفة القدامى من أن الجسم البشري لا قيمة كبيرة له. وبالتالي فإن جسم الإنسان وتركيبته المعقّدة هو أعجوبة في حدّ ذاته. وهنا أفتح فاصلا شخصيا بأن هذا التأكيد لا يتعارض في شيء مع من يقول جسم الانسان هو أعجوبة منّ بها الله على الإنسان…لأن المعنى النهائي واحد.
أما الحكاية المزعجة فقد حدثت منذ 7 ملايين سنة فقط وتتمثل في حصول أجداد الانسان الأول على شكل أرقى من الذكاء تمكّن بواسطته من مواجهة مخاطر متعددة تهدد وجوده في بيئة معادية، خاصة أنه كان دون أجنحة وليس سريعا بشكل كاف وليست له قدرات دفاعية كبيرة، فوظّف ذكاءه لصنع أسلحة امتدّت من الحجارة المصقولة إلى أدوات الرمي إلى القوس إلى البنادق… وصولا إلى الأسلحة النووية المُدمّرة.
إن نفس هذا الذكاء الذي أنقذ البشرية تاريخيا هو الذي يُهدّد الوجود البشري بالفناء. وهو ذكاء يُوظف اليوم بصورة أساسية في خدمة الربح المباشر.