ينطلق الناجحون الجدد في باكالوريا 2023 يوم الأربعاء 26 جويلية (وإلى غاية يوم الأحد 30 من نفس الشهر) في إجهاد أنفسهم من أجل تخيّر أي مسلك دراسي جامعي يُلائم أحلامهم وطموحاتهم ومشاريعهم في الحياة ومستويات اقتدارهم الذهني وميولهم النفسية ومستوى المجموع الذي سيتنافسون بموجبه مع نظرائهم… وإن العوامل والإكراهات التي يتعيّن على المترشح أن يأخذها بعين الاعتبار في تعددها هي التي تجعل من عملية الاختيار مهمّة صعبة ومتسبّبة بشيء من التوتّر والقلق والحيرة… وهو في حدّ ذاته مؤشّر إيجابي حسب رأيي لأنه ينمّ عن حرص وجديّة في التعاطي مع “تقرير المصير”.
وما يجعل عملية الاختيار يكتسيها بعض من الصعوبة والدقّة لدى الطالب الجديد هو تحوّزه على جملة من المؤشرات المعلومة (مثل المعدل في الباكالوريا والترتيب الوطني حسب الصيغة الاجمالية وطاقة الاستيعاب المفتوحة في كل شعبة) وافتقاره في نفس الوقت إلى مؤشرات حاسمة أخرى تكون غير مُتاحة أثناء فترة تعمير بطاقة الاختيارات، مثل نسبة المتحصلين على معدلات متميزة في كل نوع من أنواع الباكالوريا، وكثافة الإقبال على مختلف عروض التكوين وحجم التأثير الذي سيكون للتنفيل الجغرافي على تلاميذ بعض الجهات، إلخ…
أردت من خلال هذه الورقة أن أضع بعض ما تعلّمته من تجربتي المتواضعة في مجال التوجيه الجامعي تحت أنظار المترشحين، متقدّما ببعض النصائحالتي قد تُساهم في تبديد بعض حيرتهم أو تُسند اختياراتهم أو كذلك تقيهم مغبّة بعض الأخطاء التي يصعب تداركها في المحطات اللاحقة.
أولا : الباكالوريا عُملة ثمينة قابلة للتفعيل في أي مربّع أنت تصنعُهُ
أقنع نفسك من الآن أنك أحرزت الباكالوريا وبالمعدل الذي أتاحته ظروفك ونفسيتك ومُراكماتك السابقة في لحظة اجتيازها وبالتالي، اعتبرْ أنك أنجزت شيئا مهمّا في مسيرتك التي مازالت تطول ولا فائدة من التغبّن على نقاط أفلتت منك أو أداء أفضل كان من الممكن تحقيقه. واستمر في التمسك بتحقيق حلمك عبر “مختصرات” أخرى توصلك إلى نفس النتائج والمؤدّيات التي كنت ستنالها بواسطة مسالك يتطلب ولوجها معدلات عالية جدا في هذه المرحلة. (وإلا لما كان خرّيجو كبرى مدارس الهندسة التي التحق بها المتفوقون بعد الباكالوريا يعملون اليوم جنبا إلى جنب مع خريجي مؤسسات تعليم عال تونسية “عادية” تفوقوا “لاحقا” وثابروا و “مَجْوَروا” (كما يعبّر الشباب) وانتزعوا أفضل العقود والفرص الشغليّة في تونس وفي الخارج !).
ثانيا : عنوان الشعبة لا يعني شيئا إذا لم يقترن بمآلاته دراسيا وشغليّا
عند اختيارك لشعبة ما، يتعيّن عليك الانتباه إلى “التخصّصات” التي تُفضي إليها تلك الشعبة الجامعية بعد السداسيّات المشتركة الأولى، لأن نفس المسلك الذي تُدرّسه عديد المؤسسات بتسمية موحّدة لا يُفضي بالضرورة إلى نفس التخصّصات هنا وهناك. فعلى سبيل المثال إجازة علوم التصرف بالمعهد الأعلى للتصرف بباردو تُفضي إلى تخصصات إدارة الأعمال والتسويق والمالية والمحاسبة والتصرف في الموارد البشرية (كمسالك توجيه ممكنة تُلوّن الشهادة النهائية في علوم التصرف) بينما نفس هذه الإجازة بمعهد الدراسات التجارية العليا بصفاقس لا تُتيح إلا الهندسة الاقتصادية والمالية، والإجازة في الحقوق التي تدرّسها عديد المؤسسات تُفضي إلى تخصصات القانون العام والقانون الخاص باستثناء صفاقس وقابس حيث يُدرج القانون العقاري كتخصص ممكن مع القانون العام والقانون الخاص بعد السداسيات الأولى، إلخ …
ثالثا : ترتيب الاختيارات للحلم فيه نصيب … قبل مجموع النقاط
التطبيقة الإعلامية المخصّصة لمعالجة اختيارات الطلبة الجدد، على درجة عالية من الإتقان بحيث تسمح بترتيب كل الناجحين في الباكالوريا والمترشحين للتوجيه الجامعي في كل باكالوريا على حِدة وفي كل الاختيارات التي عبّروا عنها (أي بعض مئات الآلاف من الاختيارات) قبل الشروع في أي تعيين. ثمّ يُنظر إلى كل شعبة مطلوبة على حِدة وإلى مجموع مَن طلبها في المقام الأول ثم من طلبها في المقام الثاني…إلى غاية المقام العاشر. تُعطى الأولوية بطبيعة الحال إلى من رتّب تلك الشعبة كاختيار أول ولكن بعد مُقارنته بمن طلبها في الاختيار الثاني على سبيل المثال. ويتحصل عليها هذا الأخير في حالتين اثنتين : إذا كان مجموع من رتّبها كاختيار أول أدنى من مجموع الذي رتّبها في المقام الثاني وإذا لم يتحصل صاحب الاختيار الثاني على اختياره الأول. بمعنى أنه على المترشح للتوجيه الجامعي أن يستغل كل حظوظه مهما كانت جزئية وضئيلة في الاختيارات الأولى ويترك “المؤكّد” إلى نهاية الترتيب، لأنه في كل الحالات لا يمكن أن ينتزعه منه من رتّبه في بداية بطاقة اختياراته دون توفّر شرط مجموع النقاط المُقارن.
رابعا : خذ نصيبك من الدورة الرئيسية
في إطار “حماية المُشرّع لنفسه”، تضاعف منذ السنة الماضية التضييق على المترشحين للتوجيه الجامعي من خلال “احتفاظ وزارة التعليم العالي لنفسها بالحق في عدم الاستجابة لمطالب إعادة التوجيه حتى وإن توفّر شرط مجموع نقاط آخر موجّه (لسنة 2023) بتعلّة “استنفاد طاقة الاستيعاب” (وهو في رأيي منطق هواة مردود على أصحابه لاعتبارات قد نعود إليها في محطات قادمة). وهذا المُعطى الجديد وغير المنصف يُحتّم على الطلبة الجدد مزيد الانتباه والتدقيق في ترتيب اختياراتهم ووضع كل شروط الحصول على تعيين منذ الدورة الرئيسية إلى صفّهم درءًا لأيّة مفاجآت قد تحصل في دورة إعادة التوجيه، حتى وإن كنت على حقّ وتُطالب بنيل شعبة مجموعك فيها يفوق مجموع آخر من تمّ تعيينه بها.
خامسا وأخيرا : التوجيه ترتيب ومسالك ومعدلات … ولكنه مرتهن لواقع موضوعي أيضا
ثمة حقائق موضوعية لم يعد بالإمكان إنكارها أو التعتيم عليها ولا بدّ من التعاطي معها بكل جرأة ومسؤولية، وذلك في علاقة بمستقبل الدراسة في التعليم العالي التي تفتح على سوق الشغل لا في تونس فقط بل في العالم بأسره. من هذه الحقائق أن مهن التربية والتعليم لم تعد تستهوي الشباب لاعتبارات تتعلق بمكانة المربّين في المجتمع ومستوى أجورهم، وأن أبواب الوظيفة العمومية بصورة عامة أوصدت بشكل حديدي، وأن اللغات الأجنبية زادٌ أساسي حتى وإن كنت تدرُس الرياضيات أو الفيزياء أو علوم الهندسة، وأن الرقمنة ستسيطر على جميع أوجه الحياة على المستوى الكوني … ولتكن اختياراتك منسجمة مع هذا الواقع الجديد الذي تعيشه الإنسانية…
وخاصة :
أن الأكثر أهمية ليست أن تتابع دراستك بشعبة مرموقة اجتماعيا (لها بصفة عامة تسمية افرنجية ترطن بها ألسنة النساء في لقاءاتهنّ العشوية) بل أن تتميّز في أية شعبة ستستطيع متابعة دراساتك بها الآن وهنا، لأن مجهودك ومثابرتك وجديتك واستعدادك للتعالي وسهر الليالي أقوى من كل الاعتبارات الحافّة الأخرى. أقول هذا لأنني رأيت عديد الطلبة الجدد الذين لم تسمح لهم معدلاتهم بالحصول على مسلك مّا ويتذرّعون بذلك (حطّوني في حاجة ما طلبتهاش بالكل ! أو طيشوني في جهة ما نحبهاش !) من أجل إضفاء شيء من المشروعية على “استسلامهم” والضغط على عائلاتهم المُنهكة لتلبية رغبتهم في التسجيل بالتعليم العالي الخاص أو الدراسة بالخارج (والالتحاق أحيانا بمؤسسات في نفس مستوى التكوين بالتعليم العالي التونسي أو أدنى).
الرقم الأخضر المجاني لوزارة التربية على ذمة الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني لمرافقة الناجحين الجدد في الباكالوريا. عدد من المستشارين يوميا يؤمّنون حصص مداومة من الساعة التاسعة صباحا إلى غاية الساعه الثانية بعد الظهر للإجابة عن استفسارات الطلبة الجدد وتساؤلات أوليائهم خلال كامل فترة تعمير بطاقات الاختيار. بالتوفيق للجميع