عند اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات في حادث المنصة الدموي يوم (6) أكتوبر (1981) بدا المشهد منذرا على المستويين الأمني والسياسي ومستقبل البلد معلق على مجهول.
في أجواء القلق المفرط طويت بسرعة فائقة صفحة السادات وأجري استفتاء على الرئيس الجديد يوم (12) أكتوبر. حقائق القوة تحركت وحسمت اختيار حسنى مبارك لموقع الرئاسة رغم أن صورته العامة لم تكن موحية على أي نحو بقدرته السياسية على إدارة شئؤون البلاد.في منتصف سبعينات القرن الماضي بدا اختياره نائبا لرئيس الجمهورية مفاجئا للرأي العام وله هو نفسه. هناك فارق جوهري في توصيف الأدوار التىي حكمت قصة صعود وغروب “مبارك” بين ما هو عسكري وما هو سياسي. ما هو عسكري يرتبط بدوره في حرب أكتوبر (1973) كقائد كفء لسلاح الطيران. وما هو سياسىي تلخصه الأسباب التي أفضت إلى إطاحته من الحكم بتظاهرات مليونية لم يكن ممكنا تحديها في “يناير” (2011).
في ظروف ما بعد المنصة تمكن من السيطرة على الموقف في مواجهة التمردات المسلحة التي نشبت في أسيوط وأجواء الفزع التي سادت البيئة العامة خشية انفلات الأمن. ثم تمكن من تخفيف الاحتقان السياسي الداخلي بالإفراج عن مئات المعتقلين السياسيين من جميع الاتجاهات الوطنية، الذين زج بهم خلف أسوار المعتقلات في سبتمبر (1981) قبل اغتيال السادات بشهر واحد. من تحت نيران المنصة بدأ عصر جديد وجرى نسيان الصورة الباهتة والساخرة التي صاحبت الرئيس الجديد عندما كان نائبا.
لم يكن النائب سرا مغلقا في الولايات المتحدة، ولا في “إسرائيل”، ولا لدى جهات غربية عديدة تتابع ما يحدث في مصر. كانوا يعرفون عنه بأكثر مما يعرف عنه في مصر، وكانوا يفضلونه على الرجل الذى وقع اتفاقية السلام المصرية ــ الإسرائيلية عام (1979). لم تكن السياسة من شواغله، والأرجح أن السادات فضله على قيادات عسكرية أخرى من الذين لعبوا أدوارا بارزة في حرب أكتوبر أكثر مما لعب هو من أدوار، لأنه الأقل طموحا والأكثر انضباطا. وعى أكثر من غيره، الحقائق الرئيسية في اختياره المفاجئ نائبا للرئيس، والذي يعنى ــ بحقائق السلطة في مصر ــ ترشيحه مستقبلا للرئاسة.
ساعده حذره الطبيعى في تجنب مطبات الصدام في كواليس الرئاسة وما حولها، أو احتمالات الخروج من دائرتها. حرص بصورة مبالغ فيها على أن يذكر كلما أتيحت الفرصة أمامه أنه “تلميذ فى مدرسة السادات”! لم تكن طبيعة شخصيته واهتماماته تسمح لتنظيم سرى كـ”الضباط الأحرار” بأن يغامر بمفاتحته في الانضمام إليه. برواية الأستاذ “محمد فائق” وزير الإعلام في عهد جمال عبدالناصر، فإنه اقترب إنسانيا فى خمسينات القرن الماضي مع الضابط الشاب حسنى مبارك أثناء خدمتهما في معسكرين متجاورين بحى “حلوان” يذهبان ويعودان معا إلى “مصر الجديدة” الذي يقطنان به، فى سيارة واحدة. سألته: “هل تصادف أنكما تحدثتما في شأن عام، أو تطرقتما في رحلة الذهاب والإياب الطويلة إلى أية قضية أو أزمة سياسية وتبادلتما الرأي فيها، أو اقترح عليك ذات مرة أن تجلسا معا في مكان عام لتبادل الحديث المستفيض كما يفعل الأصدقاء عادة؟”. أجاب: “أبدا!”.
ساعدته صفاته وطبائعه في تجاوز مطبات “انتفاضة الخبز” (1977) و”كامب ديفيد” (1978) و”اعتقالات سبتمبر” (1981)، فهو في صف الرئيس دائما، قد تكون له وجهات نظر أخرى لكنه لم يفصح عنها على أية صورة. توارى السياسى فيه ــ دائما ــ لصالح “الإدارى”. صاحبته الصورة نفسها إلى مقعد الرجل الأول وحكمت تصرفاته على مدى ثلاثة عقود متأثرا بخبرته العملية التي أكدت ان صفة الإدارى مكنته من البقاء في السلطة العليا، بينما خرج منها منافسه القوى “منصور حسن”، الأقرب إلى السادات، حين بدا أنه مختلف مع بعض قراراته وتوجهاته في ملفات حساسة أدت إلى حادث المنصة الدامي. أكسبه الدور الأمني، الذي تولاه في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، معرفة دقيقة بعناصر القوة وتعقيداتها، ومكنه من السيطرة على مقاليد الحكم بعد اغتيال السادات. كانت لديه خبرة عملية بخرائط الأمن وملفاتها الحساسة. رجل الأمن تعنيه المعلومات الأمنية قبل أي شىء آخر للتعرف على مكامن الخطر. خبرته طبعت عصره كله، فهو لا يسمع لغير الأمن، والاعتبارات الأمنية تجب عنده أية اعتبارات أخرى. بعد المنصة تأكدت تلك النزعة في تغليب الاعتبارات الأمنية، مستخلصا من مشاهد النار أن الأمن هو أساس الحكم، وتصرف على هذا الأساس دوما.
للأمن ضروراته غير أن الإفراط فيه على حساب الوسائل السياسية أفضى بالضرورة إلى أزمات شرعية اكتسبت طابعها الرمزي في عربات الأمن المركزي، التي كانت تسد ميادين القاهرة وشوارعها الرئيسية في سنواته الأخيرة. صفة “الحذر” لازمت قصة صعوده واستقرت في طريقة إدارته للشؤون العامة. الحذر من صفات رجال الأمن المدربين، فالخطر قد يأتي من مأمنه، لكنه ــ في مجال مدح خصاله ــ “غير مؤذٍ”، كما كان يقول بعض وزرائه المقربين.
كان مستعدا لغض الطرف، وحتى التسامح، مع أعتى خصومه إذا لم يكن اختلافه السياسي يمثل تهديدا مباشرا لأمن نظامه، غير أنه لم يكن يتردد في ممارسة أشد أنواع القسوة إذا كان هناك مثل هذا التهديد. التردد الذي تجده في حقول السياسة وملفاتها، لم تكن تجد مثيله، أو رديفه في مسائل الأمن. كانت الصفات الشخصية، التي ساعدته على الصعود والبقاء في الحكم، جوهر معضلته الكبرى حيث أفضت غلبة التفكير الأمنى إلى تغييب السياسة وجمود النظام السياسي وتآكل شرعيته، كأنه نحر متواصل تحت قوائمه. لم يكن يميل إلى “فكرة التغيير” إذا ما توافرت أسبابها ودواعيها، ويأخذ على السادات منهجه فى “الصدمات السياسية”. قرر أن يكون “ساداتيا” بلا أساليبه، وبلا أدنى استعداد سياسي، أو شبه سياسي، لمراجعة سياساته من عند الجذور والتعرف على الأسباب الجوهرية خارج نطاق الأمن، التي أفضت إلى المنصة.
لم يكن معجبا بالرجل الذي عينه نائبا للرئيس، لكنه التزم بصميم توجهاته الاستراتيجية والاجتماعية التي أرساها.
كان السادات مناورا سياسيا فيما كان هو إداريا متحوطا أبقى على ما يعتقد أنه مستقر مادام يحفظ أمن النظام. كان مستلفتا قدر التناقض بين سياساته وأقواله في جلسات مغلقة. لمرات عديدة استمعت إليه، مع رؤساء تحرير آخرين، وهو يوجه انتقادات لاذعة لرئاسات أمريكية وإسرائيلية، دون أن ينعكس ذلك على سياساته ومواقفه. لم يكن مستعدا لأي صدام محسوب، أو أية مراجعة للسياسات المتبعة وفق المصالح العليا للبلاد حتى لا تكون العلاقات الأمريكية تسليما بما يفرض عليه. استولت عليه فكرة أن الصدام يؤدي إلى الحرب، وأن مصر ليس بوسعها أن تتحدى الولايات المتحدة. كانت تلك الفكرة من موروثات العصر الذى سبقه.
تمكنت منه صورة “رئيس مجلس إدارة مصر” بتعبير بعض مقربيه من باب الولاء له لا انتقاده، مدحه لا ذمه.
غيبت فكرة “الرئيس الإدارى” السياسة والإدارة معا، فلا إدارة بلا أفق سياسي يحكمها ولا أمن إذا لم تتوطد قواعد الشرعية بالرضاء العام.