الصورة الناصعة التي اكتسبتها تونس بعد 14 جانفي 2011 باعتبار التجربة الديموقراطية الفريدة التي عاشتها على الأقل في منطقتها و بين بلدان الجوار … لم تستطع المحافظة عليها طويلا فأخذ هذا البياض الناصع لثورة الياسمين يكتسي ألوانا رمادية تزداد قتامة من سنة إلى أخرى بعد ما تتالت العمليات الإرهابية و الاغتيالات السياسية .. فلم تسلم منها لا الجبال و لا المدن و لا مناطق الأمن و لا المنشآت السياحية فطالت النزل و المتاحف و مست المواطنين و الأجانب …
تتالت عمليات التسفير الممنهجة بعد مؤتمر” لا أصدقاء سوريا “.. و تفاقمت الأزمة الاقتصادية و تعاظمت وتيرة الإضرابات و الاحتجاجات و قطع الطريق و غلق مواقع الإنتاج . و تدافعت مراكب الحرقة و مواكبها في عرض البحر و تتالت غزواتها للسواحل الإيطالية و تراجع مستوى ثقة التونسيين في حكوماتهم المتعاقبة و فتر أملهم في مستقبل أفضل و تراجعت معها ثقة البلدان الغربية في تونس و جاءت عملية نيس الأخيرة لتكمل نسف ما تبقى من صورة ..
هذا الاعتداء الذي ارتكبه أحد أبناء الثورة” المشّوهة ” ممن لفظتهم المدرسة باكرا و تقطّعت بهم سبل الكسب فلم يجدوا غير حضن التهريب و الإرهاب يتبناهم و “يطبطب “عليهم و يصوّر لهم الجنة الموعودة و أنهار العسل و الخمر و الحور العين و كل ما لا تطاله أياديهم في واقعهم البائس الشقيّ … ولعلّ آخر الطامعين ابراهيم العيساوي هذا الحارق من تونس إلى إيطاليا ثم إلى فرنسا ليرتكب جريمته الحقيرة و ليطلق شرارة التغيير
كانت إيطاليا تتعامل مع ملف الحارقين من تونس الذين يتوافدون بالمئات أسبوعيا على سواحلها باللين و التسامح أحيانا و بالتهديد و الترحيل أحيانا أخرىو لكن ما بعد نيس لن يكون كما قبلها ….فسرعة مرور ابراهيم العيساوي من إيطاليا إلى فرنسا و مروره مباشرة إلى تنفيذ جريمته الإرهابية فتّح الأعين على ما يمكن أن يتسبب فيه التكفيريون و معتنقو الأفكار المتطرفة ،و جلب الانتباه إلى تسللهم إلى المجتمعات الغربية خاصة بعد ما أقدم عليه الشيشاني من ذبح للأستاذ الفرنسي ثم عملية فيينا الأخيرة ممّا جعل كل الأنظار تتجه إلى الاسلاميين…و ما تصريحات الرئيس الفرنسي المتتالية حول الإرهاب و المنظمات الإسلامية الراعية له و قدوم وزير خارجيته جيرالد دارمانا إلى تونس للتفاوض حول ترحيل عدد من الإرهابيين التونسيين إلا تأكيد على تغير طرق التعامل الأجنبي مع هذا الملف ..
ففرنسا و غيرها من الدول الغربية لا يريدون منّا إلا نخبتنا المفكّرة و عقولنا النّيّرة و أبناءنا من المتفوقين و يدنا العاملة الماهرة أمّا النّفايات فيعيدونها إلينا غير مأسوف عليها – حتى و إن تكوّنت على أراضيهم و تأدلجت في بلدانهم و احتضنتها منظماتهم العديدة ـفكيف ستتصرّف تونس مع هذه الملفات؟ ملفّ ترحيل أصحاب الميول الإرهابيّة و ملفّ منع قوارب الهجرة السريّة … هل لديها استراتيجيا واضحة و سياسة خارجية جليّة المعالم في ذلك؟ هل ستعمد إلى سياسة النعامة و تدسّ رأسها في الرمل و تقبل بما تفرضه عليها الدّول الأوروبية و توافق على شروطهم حتى و إن كان فيها اعتداء على السيادة الوطنية؟ … هل ستقبل بعودة إرهابيين تضيفهم إلى قائمات الموجودين على أراضيها و الذين عادوا إليها متسللين من بؤر التوتّر ؟ و هل ستقبل ببواخر مراقبة فرنسية إيطالية مشتركة في مياهها الإقليمية لمراقبة مراكب الحارقين و الحارقات ؟ … أم أنّها ستحسن استغلال هذا الملفّ لصالحها و تتمكن من جعله وسيلة ضغط و تفاوض تساعدها على إيجاد حلول للأزمة الاقتصاديّة غير المسبوقة التي تمرّ بها،
فإذا ما أرادت فرنسا أو إيطاليا وقف نزيف موجات المهاجرين من تونسيين و غيرهم فليس أمامها سوى أن تقدّم المساعدات الكفيلة بتشجيعهم على الاستقرار في تونس … و لكن يبقى السؤال: هل يوجد في تونس اليوم من له قدرة على التفاوض و فرض شروط تونس و قلب الموازين لتخرج من موقع الضعف إلى موقع القوّة ؟ أ لم تفعل ذلك تركيا و اليونان من قبلها .؟ ..أ لم يكن بورقيبة رحمه الله بارعا في ذلك منذ سنوات الاستقلال الأولى ؟
و هل تجد تونس اليوم من يستطيع الحفاظ على سيادتها الوطنية ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * مذيعة و مقدمة برامج براديو اللمّة