منبـ ... نار

ما يحدث في مجالس الأقسام والتوجيه

انطباعات مستشارة في الإعلام والتوجيه

نشرت

في

“المعلّم السّيّئ يتكلّم. المعلّم الجيّد يشرح. المعلّم المتميّز يبرهن. المعلّم العظيم جدّا يُلهم” (الفنّان والكاتب وليام أرثر وارد 1922 – 1994)

<strong>نجاح الحمداني<strong>

كم صدعت رؤوسنا تلك التّحاليل والانطباعات والآراء حول التّلاميذ ومستوياتهم الّتي ما فتئت تتدنّى يدعمها أصحابها بنتائج اختبارات تقييم بيزا العالمي وغيره. (ولو أنّي لست ممّن يثقون بتلك الاختبارات العالميّة الّتي تُصاغ وتُصنع في مجرّات أخرى ويُؤتى بها إلينا دون تبيئتها وتطويعها لواقع ناشئتنا). فما إن يحلّ موعد إعلان نّتائج مختلف الامتحانات حتّى تنهال علينا التّحاليل من هنا وهناك مُدينة لمستوى التّلاميذ ناعتة إيّاهم بكل ألوان الصفات التي تزدريهم وتزدري أولياءهم وصولا إلى إدانة السلطة والنظام العالمي والرأسمالية المتوحّشة.

الآخرون هم دائما وحدهم المسؤولون عن تدنّي النّتائج وتدهور المستوى. وأوّل سؤال يقفز إلى السّطح هو هل أن تلك الأحكام مبنيّة على نتائج دراسات علميّة قام بها مختصّون اعتمدوا وسائل قيس وتحليل لربط الأسباب بالنّتائج؟ أم هي أحكام وانطباعات إطلاقية تُوزّع جِزافا لتبرئة الذمّة وتعليق الفشل على حِبال الآخرين؟

وباعتبار أن الخيط رفيع جدا بين الحُكْمِ الانفعالي والتّقييم المتبصّر، كان على الفاعلين التّربويّين التحلّي بالحذر والقدرة على التّنسيب إزاء هذه الأحكام، لأنها كثيرا ما تتحول إلى وصم للمتعلّم يظل يلاحقه على مدى طويل بل قد يكون مدى حياته. فإلى أي مدى يمكن اعتبار هذه الأحكام ذات وجاهة وعقلانيّة تُتيح إمكانية اعتمادها والاستئناس بها ؟

يلجأ المعلّمون (مصطلح “معلّم” شامل هنا) باستمرار إلى إصدار أحكام باتّة حول المتعلّمين و خاصّة حول مستواهم الذهني وإمكانية استمرارهم في الدراسة والتحصيل من دونه، مُقتنعين تماما بأن انطباعاتهم هي بمثابة قراءة تشخيصية أنزلت تنزيلا لا تقبل التشكيك أو التأويل، وهنا تحديدا تكمن خطورتها وآثارها المدمّرة على شخصية متعلّم غضّ مازالت قيد التشكّل والبناء.

إنّ التّساؤل عمّا إذا كان الحُكم الّذي يصدره المعلّمون بشأن مستوى تلاميذهم مبنيّا بصفة عقلانية ومؤسّسا على مقاييس مُثبتة علميا وقواعد موضوعية صارمة، يظلّ قائما وبإلحاح لأن من يستخفّ باستصدارها لا يدرك بالمرّة ثِقل تبعاتها النفسية والدراسية على المتعلّمين.

قد يكون هذا الحكم عفويّا وصادرا عن “حسن نيّة” لكن عندما يتعلق الأمر بمستقبل أجيال (أو حتى بمستقبل طفل أو شاب واحد) يتحتّم على المربّين الحذر والتيقّظ بل الاجتهاد المُضني من أجل فتح الآفاق بدلا من إقفالها وبعث الأمل في النفوس المُتعبة عوضا عن مزيد تأزيمها والإيمان العميق بأنه “ثمّة دائما طريق للنجاة ” على حدّ قول الأديب الراحل الشهيد غسان كنفاني في روايته الرمزية رجال في الشمس.

تقول جميع أدبيّات وزارة التربية منذ عقود إنّ ” التّلميذ هو محور العمليّة التّربويّة، وهو عِمادُها وقِوامُها”، لكن هل يعني هذا أنّنا اهتممنا به حقيقة كذات وكظروف اجتماعية أنتجته ومناويل مدرسية نحتته؟ هل انتبهت المدرسة إلى أحلامه وتصوّراته التي تعتبر نافذته على العالم المحيط به وعلى تعلّمه… وحينما نتجاهل كل هذا كفاعلين تربويّين نسمح لأنفسنا بتصنيف هؤلاء المتعلّمين إلى “جيّدين” و”سيّئين”، إلى “ناجحين” و “فاشلين”.

والتّلاميذ أنفسهم للأسف ـ تحت وقع هذه القوالب النمطيّة ـ يستبطنون هذه الأفكار ويتأثّرون بتلك التّصنيفات لتنعكس في أدائهم المدرسي وتخلق صورة مشوّهة حول ذواتهم.

إن الذي يزيد الأمر تعقيدا هو اعتماد هذه “الصّندقة الاعتباطية والمبكّرة” على النّتائج المدرسيّة الّتي يحصدها المتعلّمون، وغالبا ما يكون هامش الريبة في صدقيّتها وموضوعيتها متغيّرا كثيرا حسب المصحّحين ونمط المواضيع وحالة المتعلمين يوم الامتحان … وطبعا يتجاوز هذا التّصنيف المتعلّمين ليطال الموادّ والشعب والاختصاصات قبل الوصول إلى المهن والوظائف !  أولم يصنّف أحد وزراء التّعليم العالي (أحتفظ باسمه) الشّعب إلى “نبيلة” و “غير نبيلة”؟ والموادّ العلميّة لها العلويّة المطلقة مقارنة ببقيّة الموادّ ليتحدّد تصنيف “الأذكياء” و”الأغبياء” من التّلاميذ حسب “تفوّقهم” أو “فشلهم” في هذه الموادّ صاحبة السيادة المدرسية التي بموجبها تتمّ مختلف عمليات التوجيه في جزء كبير منها.

تصنيف الموادّ الدّراسيّة نجد له أثرا في ضبط الموازنات حيث تُعطى الأولوية لمدرّسي العلوم الذين يتمتّعون عادة بحظوة خاصة في التوزيع الأسبوعي (يُجمع المربّون وحتى أساتذة “المواد غير المثمّنة” بأن المواد العلمية يجب أن تدرّس صباحا لأنها تتطلب أدمغة مازالت متوثّبة) وفي المجالس لهم أولويّة التّصويت إذا تعلّق الأمر بإسعاف أو موقف لم يحسمه القانون ويتطلب تقديرا من المجلس.

ومثل هذه الممارسات أصبحت تمرّ مرور الكرام ويكاد يقبل بها الجميع. ويبدو أنّ الأمر يزداد حدّة حينما نصل إلى توجيه التّلاميذ نحو المسالك والشّعب، فترى العديدين يتعجّبون ويستغربون حينما يختار تلميذ “متميّز” مسلكا غير مسلك العلوم (وهو ما تكرّسه سياسة الدّولة في المعاهد النّموذجيّة) بل إن بعض المعلّمين يستميت في “توجيه” التّلميذ إلى تلك الشّعب الّتي تعتبر مسارات تميّز مزدريا في المقابل بقيّة المسالك الإنسانية والأدبية والاقتصادية … أما رغبة التلميذ وطموحه واستعداده لتجاوز بعض الهِنات التي بيّنتها النتائج وتداعيات أن يتواجد المتعلّمون ضمن مسارات لا تُشبههم ولا تستهويهم…  فتلك إنشائيات تصغي إليها مجالس الأقسام والتوجيه ولكن لا تأخذ بها في القرار النهائي. 

أمّا عن التّلاميذ “السّيّئين” فيشكّلون غالبا حقلا خصبا للتفكّه  وما يشبه النميمة، فتسمع التّدخّلات المسهبة في التّذكير بوضع التّلميذ العائلي، فهذا أمّه مطلّقة وذاك والده يبحث عن التّزوّج مرّة أخرى وثالث له شكل حلاقة غريب لا تليق بالفضاء المدرسي وتلك كلّ همّها التجمّل واستعمال المساحيق ومن الأفضل حسب رأي العديدين أن تغادر فورا وتتزوّج “فتهنأ هيّ ونرتاح نحن”… طبعا كلّ هذا ليس للبحث في حالة المتعلّمين النّفسيّة بل لتوجيههم نحو الشّعب “غير النّبيلة” وإبعادهم عن الشّعب المتمتّعة بالعلويّة والمخصصة للصّفوة.

وبالرغم من أن عمليات التّوجيه تقوم على نصوص قانونيّة (على هِناتها) ورغبات التّلاميذ وإمكاناتهم (يمكن تحديدها باختبارات إذا أردنا أن تكون ممارستنا علميّة دقيقة)، لكنّ أغلب المعنيّين بالمجالس لا يحضرون وإن حضروا فلا تخرج انطباعاتهم عن مربّع التصنيفات سالفة الذكر أو “واللّه لا نعرف، أعطيه الّلي يجي عادي” حينما يُسألون عن المسلك الأنسب والتوجيه الأسلم،. لا مبالاة تقابلها استماتة في استمالة التّلاميذ “المتفوّقين” …

لذلك نرى سنويا عددا هائلا من التلاميذ يطلب إعادة التّوجيه في خطوة إرادية للتمرّد على ما قرره لهم بعض الأساتذه والأولياء..

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version