اليوم هو الاحتفاء بذكرى ثورة 2011 المجيدة.. أو بالأحرى انتفاضة عفوية ارتجالية شعبية غابت فيها جل الأسس الثورية و قواعد الثورة و برامجها و تأطيراتها و قياداتها … لم تحتضن هذه “الثورة” في واقع أمرها إلا تطلعات شعب نحو الشغل و الحرية و الكرامة كم هزج الشباب و الكهول والنساء و حتى الاطفال بنشيدها…
ثورة قام بها شعب يهوى المتغيرات و كم يتقن اختزان و إخفاء همومه و أوجاعه إلى حين و كم يتحمل أوزار الأوبئة السياسوية التي أردفتها أوبئة إضافية خلال السنتين الأخيرتين.. شعب يجسم تركيبة مزدوجة من الذكاء الفطري و الغباء السياسي و تختلج عقليته بين الغضب و الثورة و بين الاستكانة و الصبر و هما صبر و استكانة لا يمكن لأحد تحديد مكان أو زمان انفجارها ثورة عارمة. … شعب بمثل سلحفاة الحديقة الرملية التي تدفن نفسها كل شتاء و لا ندري متى تظهر أمامنا متدحرجة حاملة لكل ثقل ظهرها مذكرة بوجودها…
ثورة 2011 غابت عنها جميع قواعد،الثورات فلا تأطير و لا برامج اقتصادية ثورية و لا خطوط واضحة تبشر برؤية مطمئنة و لا استجابة لأدنى التطلعات التي نادى بها الشباب الثائر … استمرت المنظومة الليبرالية الفاحشة و الفاشلة و السياسات العرجاء في أتعس وجوهها! تراكمت الحماقات و التصدعات و الصدامات و الانتماءات المشبوهة و غابت روح وطنية كم نحن بحاجة اليها. تمكن المال الفاسد و المافيات السياسوية و الإعلامية و الاقتصادية فبرزت التجارة الموازية و تغول التهريب و ازدهرت “الزطلة” و بقية أخواتها لتكتسح الساحة الوطنية أمام عجز سلطة لا تقدر أو لا ترغب في وضع حد لرزئها …
أصبح الأعداء التاريخيون للحريات و المدنية و التنوير يتباهون بهذه الثورة و ينعتون أسيادهم ـ الثوار الحقيقيين ـ بصناع “الثورة المضادة”و لا يخجلون من تصفح تاريخهم المظلم و الدموي و هذه مهزلة أخرى … وطن أصبح خلال هذه السنوات العشر كمثل بحيرة راكدة المياه تسبح فيها الحيتان الصغيرة و الكبيرة ذات الألوان المتعددة كالتي نراها في حوض الأسماك(الأكواريوم) و مع الحيتان تتلوى الأفاعي الرقطاء السامة،و الخنافس السوداء الداكنة و ديدان المياه الأسنة.. تفرخ الأفاعي لتزيد،المياه تعفنا يوما بعد يوم و تضيق الحياة على هذه المخلوقات تماما مثلما ضاقت اليوم على هذا الشعب البائس …
شعب “تقحقحت” أصواته من شدة الصياح و ضاعت آماله و أفراحه بثورة كانت أملا في انعتاقه. “ساخت”قدماه،في أوحال الحمقى من قياداته فاشتد وثاقه و أصبح “زاملا”.ينذر بالسقوط من فزط كوابيس همومه و فقره و إحباطه … أصبح فضاء هذا الوطن الذي كان جميلا مفتوحا للسياسات “البرصاء”و “الوطباء” و “المليطة ” و “الزلاء” و “السوقاء” و “الكرواء” و “الخزلاء” فأيننا اليوم من ثوزتنا؟؟ أين ابتسامات شعب طال ليله و غابت عنه شمسه؟ أين خضرة سهوله و بشائر خيراته؟
إن عنّ لنا أن نتحدث اليوم عن وضع الحريات و العدالة الاجتماعية طغى على أسماعنا “زميم”الذباب الأزرق و الأسود الذي يلوح بالتراجع عن مجلة الأحوال الشخصية و بقية الحريات العامة و الخاصة.. ..و إذا تصفحنا اليوم أوضاع حرية الصحافة ندرك بسرعة وهج الكتل النارية التي تهددنا، تماما مثلما ندرك سقوط القنوات في مخالب المافيا الإعلامية،و بذاءاتها … أما إذا عدنا إلى أهم مطالب الثوار في الشغل و الكرامة سنرى ما يعايشونه اليوم من نتائج مأساوية … الحياة المدنية مهددة دوما بالتلويحات الظلامية المتواصلة، و العدالة الاجتماعية و الجهوية و النفسية التي نادى بها شباب الثوزة تمخضت اليوم عن ولادة زمر جديدة من المستكرشين و مصاصي دماء و قوت الشعب.
اختلال الحياة الاجتماعية و الثقافية و النفسية بسبب الاحباطات المتواصلة و بروز فصائل الإجرام و انتشار بؤرها و حدّة عدوانيتها بالتوازي مع مظاهر البؤس و التشرد و التسول و التحيل و انتشار الاوساخ و تردي الأوضاع البيئية كلها لوحات سريالية تغمر وطنا كان جميلا ممتعا … تراجعت منظومة الخدمات المسداة و تغولت مظاهر الارتخاء و البيروقراطية و انحسار قدسية العمل و الإنتاج . توسعت بؤر الفساد و الرشوة و التهريب و انهيار متواصل للاقتصاد و تمكن المنظومة الليبيرالية المقيتة و التداين الخارجي كعهد مصطفى خزندار … ارتباك و تردد للسلطة إن عجزا أو إرادة عن وضع حد للتطاول على قواعد القانون و بروز عقلية الجهويات و نعرة القبليات التي لا تخدم إلا منظومة أعداء الوطن.
سلطة تشريعية تحتضن أعضاء مجلس نواب غابت عن أنظارهم و عقولهم و قناعاتهم مصالح ناخبيهم و حضرت لديهم المناكفات و الصراعات و الاعتداءات و طفت ضمن كل ذلك عقلية تخلف إنسان ما قبل التاريخ ( …homo Sapiens ) قطاعات تعليم و صحة و خدمات لم تعد تستجيب لمتطلبات شعب و وطن يسعى للديمقراطية و المدنية و العدالة و التنوير و الانصهار في المنظومة العصرية. لوحات داكنة السواد اختلط فيها الحابل بالنابل و ارتسمت على بابها بقرة “كرواء” هزيلة لا تدر حليبا و لا سمنا و “زلاء” لا لحم فيها و لا شحم و “جرباء” ناشرة للأوبئة أو واقع جاموسة غابة افريقية تنهشها الذئاب و الغربان و شعب يذكرنا بالبحيرة الراكدة التي تنتظر يومها الموعود،