أكرَهُ هذا الأسبوع من شهر مارس… ففيه ماتت أمّي. ينقبض قلبي كلّما وصلنا الأسبوع الثاني من شهر مارس من كل عام، ففي مثله من تِسعِ سنوات ماتت أمي فماتت الدنيا وسكت الصوت الذي كان يترنم بأنغام الملكوت وهاجر البُلبُل الذي كان يغرد بصوت السماء …
فقدت المعاني سيدتها وفارقت السعادة أسبابها. ماتت أمي .. فجمع الحنان أدواته ورحل وانهدم سقف الدّار وتمزق الثوب وتعرى الجسد. ماتت أمي .. وتركت لي الحياة بلا طعمٍ فلم تعد النجوم على الأرض إلا مصابيح مأتم أقيم في ليلٍ قاتم السواد ولم يعد للحياة معنى إلا أن تكون القبر … لو كنت أملك من عمري شيئا لأعطيت أمي ما يجعلني لا أفارقها ساعة فهي ابتسامة الزمن وإلياذة التاريخ .. فهي دعوة إبراهيم ونبوءةُ موسى… ترنيمةُ داوود وبِشارةُ عيسى..
كانت أمّي طبيبة نفسي وروح روحي فلمّا ماتت أصبحت أحيى ببعض نفس وبعض روح وبعض عقل… سبحان ربي الذي جعل من قلب الأم دنيا من خلقه وأسكن فيها معان من سِرّه، فيد أمّي لا تعرف إلا العطاء وقلبها لا يعرف إلا الحب والصفح والغفران , ووجهها لا يعرف إلا الحنان والابتسام.. ماتت أمي .. فلم يعد بعدها قلب يضخ الحب والعفو بلا مقابل ولم تعد الحياة حياة.. وتساوى العسل بالحنظل والنور بالظلام …
لقد فهمتُ بعد أن ماتت أمّي لماذا وضع الله الجنة تحت قدمي الأمّ … لأن الأم في ذاتها جنة، فأي حليب هذا الذي ترضعه وليدها وفيه كل حاجته من الطعام والشراب والدواء والأمن والأمان وسحر الوصال والالتقاء ؟ ألا يكون ذلك إلا سائلا من الجنة ؟؟… يا إلهي: أي صغير في الأرض يجد كفايته من الدنيا إلا في الأم ؟ وأي رجل – ولو كان ملكا – تهدأ نفسه إلا بين يدي أمه ؟ لو قِيسَ كل نعيم الدنيا بفقد أمّي ما سَاوى شيئا، ولو وُزِنت جواهر الأرض بقيمة أمّي لثقُلت كفّةُ أمّي.
اللهم بلغ أمي مني السلام واجزها عني خيرا واجعل عملي الصالح في ميزان حسناتها واجمعني بها في مستقر رحمتك…