تابعت ـ كغيري ـ نتفا من “الجلسة الرقابية” التي انعقدت يوم أمس بين نواب برلماننا و عدد من أعضاء الحكومة … قد يكونون كلهم حضروا، و لكني كنت أسمع رئيس الجلسة يعلن عن دفعة أولى في الصباح و دفعة أولى في العشية و قد استمعت إلى ما تيسّر من الحصتين … و عندما خرجت و رجعت للوطنية 2 ظنّا مني أن موعد السبوعي حان وقته، يعني في الثامنة و النصف، وجدت نوابا يلقون أسئلتهم و وزراء ما زالوا ينتظرون دورهم للإجابة …
نسيت سفيان و جاري يا حمودة و كل ما يمكن أن يفرّج عنا كربة يوم ثقيل … و تحاملت على نفسي و قلت من واجبنا أن نشتغل هنا أيضا و نتابع الأحداث، من فم صنّاع الأحداث … و بعد إنصات خاشع لما قيل من هذا المتسائل النيابي أو ذاك المجيب الوزاري، رسبت في الذهن بضع ملاحظات:
أولا … تلك الاستماتة من وزرائنا في الكلام باللغة الفصحى القحّة طولا و عرضا، نزولا و ارتفاعا، قرارا و جوابا، شهيقا و زفيرا … كم جميل أن تُحترم لغة البلاد في الوزارات و الدواوين و عناوين الدولة، و لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها يا خطباء العصر … و لم ينصّ دستور 14 على أن يصل بكم الأمر إلى جلب ورقة مثل (الفوسكة) و قراءتها ـ بل تهجئتها أحيانا ـ و كأنها نشرة أخبار وُضعت أمام عينيْ بوّاب التلفزة الأمّي … هناك فعلا وزراء فصحاء بالسليقة كما يقال، و لكن يوجد وزراء تكوينهم ربما في مدارس أخرى، و قد يكون حظهم الاتصالي من العامية أوفر …
اللهمّ إلا إذا كانت هناك نية في اتّباع أولي الأمر و لو بالاصطناع … كما كان يحصل أيام الترويكا التي لا تنسى، حين تحوّلت مقارّ وزاراتنا كلها ـ بقدرة قادر ـ إلى دور للعبادة و التقوى و الإيمان الساطع … و أصبح جميع المديرين و كواهي المديرين و رؤساء المصالح فجأة، من أتباع السلف الصالح … هذا يعترضك في المعابر بمنشفة على كتفه، و هذا خارج لتوّه في قبقاب من دورة المياه و هو يتمتم بآيات بيّنات، و آخر يعلّق في مكتبه سبحة أو سجّادة و في أجواء الغرفة عبق ندّ أو بخور … و طبعا لم يبق شيء من هذا بعد اعتصام الرحيل و حلول عهد التكنوقراط … و بما أن التونسيين على دين ملوكهم و يقفزون بسهولة من الطورة إلى الفورة، فنخشى ـ بالقياس ـ أن يدوم هذا الولع إلى حدود آخر يوم في حكم “الشعب يريد” … و بعدها قد يُجاب يوما على أسئلة النواب، بلغة كافون و سنفارا و كلاي بي بي دجي …
ثانيا … عنوان الجلسة رقابة النواب على الحكومة، و محتواها رقابة الحكومة على النواب … أو على الأصحّ رقابة رئيس المجلس على النواب حتى لا ينزعج وزير واحد … ما هذا يا أخا العرب؟ ما هذا يا عم طارق؟ … ما معنى أن تترك وزراءك يقولون ما يشاؤون و تمنع النواب من الرد عليهم حين يجدون زوَغانا أو معلومة خاطئة أو موقفا في حاجة إلى تعليق؟ … أنا في بقعتي هممت أكثر من مرة أن أردّ و أستفسر عن معاني بعض ما قاله “الضيوف” كما تسميهم، فكيف بنواب ذاك شغلهم … و لو لم يفعلوا ذلك لقلنا عنهم طراطير و نُهّاب و سماسرة و المعجم لا حدود له … كل هذا و غيره في إطار آخر من الكبت، و هو ذلك التعذيب بالـ “كرونومتر” الذي يعمل بسياسة المكيالين: للنائب أربع دقائق ينقطع بعدها الميكروفون و يتركه يورْور وحده … في حين يُسمح للوزراء بالتكلّم بكل راحة و دون مقاطعة مهما قالوا …
ثالثا … بربّي ابعثوا قناة برلمانية خاصة بكم تشتغل لحسابكم كامل اليوم و الشهر و السنة … خذوا الوطنية الأولى إذا أحببتم لا يهمّني … و لكن اتركوا لنا قناتنا الثانية، فهي متعتنا الوحيدة في هذا الحصار …