جور نار

مرة في حيّنا … زارنا المرسوم 54 !

نشرت

في

في أواخر شهر أفريل الماضي بثت القنوات الإخبارية الفرنسية حوارا حول وضع المستشفيات والنفقات العمومية – بين مواطن فرنسي و رئيس بلاده أثناء إحدى زياراته الميدانية.

<strong>عبير عميش<strong>

و كان لماكرون من رحابة الصدر ما جعله يقبل بالنقاش رغم أن المواطن كان محتدّا في نقاشه و بلغ به الأمر إلى أن اتهم الرئيس بأنه يقول سخافات ( bêtises sur les chiffres, bêtises tout les jours ) و حتى عندما حاول أحد الحاضرين مقاطعته و دعوته إلى احترام مقام الرئاسة سارع ماكرون بالدفاع عنه قائلا : بالعكس، إنّه يتصرف باحترام … لسنا متفقين في الرأي و لكّنه يتصرف باحترام… Oh non non non , il est respectueux. On n’est pas d’accord mais il est respectueux و انتهى الحوار بمصافحة بين الإثنين …

أما عندنا فلا مجال للحوار مع الرئيس فهو يرفض اللقاءات الصحفية و لا يقبل ملاحظات المواطنين و لعلكم تذكرون مثلما أذكر تهجّمه أثناء زيارته لباريس على أحد التونسيين الذي وجه له خطابا ناقدا … و رفضه ذات مرة للحوار مع أحد صحفيي إذاعة موزاييك لأنه غير راض على خطها التحريري … بل إننا لم نسمع الوزراء يتحدثون في حضرته (باستثناء بعض عبارات لا تسمن و لا تغني من جوع) أما في الشارع و عند مروره بين المواطنين فلا نسمع غير نداءات و أحيانا هتافات موجهة … كلها تستبطن نظرة دونية من المواطن لنفسه و كأن الرئيس في مرتبة فوق المرتبة ..

و ينسى الجميع أن الرئيس هو موظف مثله مثل كل من يعملون في الدولة يتلقى أجره هو و كل المسؤولين من جيوب المواطنين ، لكنه موظف منتخب جاء لخدمة الشعب و لتحقيق الرقي للبلاد و الرفاه و الازدهار للمواطنين . و من هذا المنطلق يجب أن يقع التعامل معه بمنطق المساواة و الندية بعيدا عن طأطأة الرؤوس و النظرات المنكسرة و الكلمات المستكينة … . و من هذا المنطلق أيضا يمكن مساءلته ومحاسبته دون أن تتعرض للإيقاف و الهرسلة إذا ما نقدته أو نشرت تدوينة لاذعة أو كاريكاتورا ساخرا.

و لكن في بلادنا يرفض الكثيرون أن يستمعوا إلى رأي ناقد للرئيس أو معارض لتوجهاته و يبلغون درجة تخوين صاحبه . بل يتطوعون للدفاع عن الرئيس و يستميتون في ذلك و يقدّمون خدماتهم لهرسلة المعارضين بكل السبل الممكنة ، في اللقاءات الخاصة و وسائل الإعلام و وسائط التواصل الاجتماعي ، ويصلون حتى إلى توظيف أجهزة الدولة لذلك إلى درجة أن صارت مهمة بعضهم و كأنه ليس لديهم ما يقومون به سوى تتبع تدوينات الفايسبوك و مقاضاة أصحابها تبعا للمرسوم 54 و آخرها أستاذ الفيزياء الذي حكم عليه بالسجن بسبب تدوينة …

و يبدو أنّ من في السلطة قد نسوا أن المواطنين ثاروا في 2010/2011 على قمع الدولة و هيمنة دولة البوليس .. فعديد المشاهد و الملاحقات و الممارسات القديمة أخذت تتكرر اليوم وصرنا جميعا مهددين بأن نتعرض لما تعرض اليه يوسف و صديقاه أصحاب أغنية ” بابا في الليل” الذين تم إيقافهم بسبب أغنية ساخرة تعرضوا فيها إلى بعض الظواهر السلبية في قطاع الأمن، فثارت ثائرة البعض منهم و لم يتوانوا في محاسبة هؤلاء الطلبة و كيف لا يفعلون و مفاتيح مراكز الأمن و مكاتب التحقيق بين أيديهم …!

ونسي أهل هذا القطاع أن لا أحد معصوم من الخطأ وأن فكرة طهورية قطاع من القطاعات هي فكرة لا تستقيم فمثلما يوجد أستاذ فاسد يبيع الفروض وطبيب فاسد يتاجر بآلام الناس ومهندس فاسد يتلاعب بسلامة البناءات و خضار أو جزار فاسد …. في الميزان يوجد كذلك بوليس مرتش يتلاعب بمصير الناس وقاض مرتش يتحكم في رقاب الناس .. لا أحد ينكر دور الأمن والجيش في حماية الوطن ولعل عمليّة جربة الأخيرة خير دليل على ذلك وعلى ما يقدمونه من تضحيات وما يروون به أرضنا من دماء. لكنّ ذلك لا يجعلهم فوق النقد أو فوق القانون فمن بينهم – مثل كل القطاعات – من يخطئ و من يصيب و من بينهم الصالح الفاسد و المحترم و المرتشي. و العمل الفني السّاخر من طبعه أن يركّز على الظواهر السلبية و يضخّمها .

و مثلما لمنا على قطاع التعليم و وزير التعليم انزعاجهم من صورة المربي في مسلسل الفلوجة فإننا نلوم الأمنيين حينما ينزعجون من أغنية أو رسمة أو صورة … و لذا تجند الكثيرون للدفاع عن هؤلاء الشباب وضغطوا من أجل إيقاف المهزلة فالدفاع عن الحريات و الوقوف في وجه الظلم هو واجب كل مواطن في هذه البلاد و ما كان ممكنا منذ 15 سنة لم يعد ممكنا اليوم … فالتعتيم في السابق غلبته قوة وسائل التواصل الحديث وفرضت شفافية التعامل على الجميع. هذا الضغط هو الذي دفع برئيس الدولة للتدخل والإعلان عن موقفه برفض إيقاف الشبان لأنهم طلبة … فهل صفة ” طالب ” وحدها تكفي للإفراج ؟ و هل صفة طالب وحدها تسمح لصاحبها بارتكاب الجرائم مهما كانت ( سرقة/قتل/اعتداء/عنف) و الإفلات من المحاسبة ؟

أ لم يكن من الأجدر عدم إيقافهم ؟ أ لم يكن من الأجدر محاسبة و متابعة من فكر في إيقافهم و من نفّذ و من حقّق معهم و من أمر بحبسهم على ذمة القضية و من رفض مطلب الإفراج عنهم في المرة الأولى ؟ و من المؤسف جدا أن ينتظر الجميع بمن فيهم القاضي كلمة الرئيس ليفرج عنهم … و بقدر ما أسعدتنا استعادتهم لحريتهم بقدر ما تتزعزع ثقتنا في الجهاز القضائي الذي ” يرضخ ” للتعليمات .. فلا فرق بين قول الرئيس ” من يبرّئهم فهو شريك لهم ” و بين استنكاره إيقاف الطلبة والتلميح إلى ضرورة الإسراع بالإفراج عنهم … فكلاهما موقف يجعل كل قاض يفكر ألف مرة قبل أن يصدر حكما لا يوافق الرغبات العامة أو يخالف توجهات السلطة فالقاضي الذيى يشعر بأن سيف (العزل) والتشويه مسلط على رقبته، لا يستطيع أن يكون عادلا و لا أن يحكّم ضميره وهو يخشى على نفسه وأسرته وأبنائه ويشعر بأن عليه أن يجاري المزاج العام المتعطش للدماء و لسماع أخبار الإيقافات والاحتجازات .

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version