هذا البلد لا يراد له أن يتقدم … لا بل تحس أحيانا أنه لا يراد له أن بستمر في الحياة، بدليل سياستنا العابثة مثلا في مجال المياه …
تضحكنا كثيرا عبارة “المياه الصالحة للشرب” (التي كانت “للشراب” فغيّرها أتقياء آخر الزمن) قلت يقهقهنا هذا التعبير ونحن نراها لم تعد تصلح حتى لشرب الحيوان … فغدا يطلع لك بياطرة وعلماء تغذية وأنصار بيئة وجمعيات رفق، ويصرخون لا لتعذيب الكائنات البريئة بمائكم الذي ليس عذبا … إذ من كثرة ما يخالطها من طين ابتعدت مياهنا منذ دهر عن توصيف الماء بأنه لاطعم له ولا لون ولا رائحة … بلى، لقد صار له طعم مالح ولون جيريّ و رائحة، وما على مدرّسي علوم الحياة والأرض إلا إيجاد تعريف أصدق وأدق لما تفكتره لنا شركة المياه في نفس الورقة مع ديوان التطهير … والطيور على أشكالها تقع …
سياستنا المائية غائبة كمعظم السياسات والشؤون في بلدنا السائب … مسؤولون كثيرون في كل ركن وعلى كل مقعد وفي ثنايا كل هيكل تنظيمي … ولكن ما رأينا جهدا في تحسين نوعية مياهنا، ولا في تحليل (من الحلال) تلك المبالغ التي ندفعها لهم كارهين كل ثلاثة أشهر … ولا أتحدث عن التقويم الاستهلاكي والتقويم التقديري فتلك مندبة أخرى … لم تفزع دولتنا وهي ترى أن ماء القوارير أصبح هو القاعدة والسبالة استثناء … فنشتري ستايك الماء بأسعار متصاعدة، ونسدد معها فواتير السوناد المتصاعدة هي الأخرى … يعني ندفع بدل الفاتورة اثنتين … لم يشنق وزير فلاحة مرة نفسه وهو يرى مائدتنا المائية تذهب هباء بفعل مضخات ثلاثين شركة خاصة بالتمام لتعليب المياه … وهو رقم يفوق دولا غزيرة الأنهار كفرنسا وبلجيكا … ولكنهم هناك عندهم أولويات إنتاج وصناعة أخرى بعيدة عن شغل بيع الريح للمراكب كما يقع في اقتصادنا الريعي المستريح …
شركتنا الوطنية ومصالحها لا تهتمّ إلا بإيصال إنذاراتها بالقطع إليك ولو كنت في بطن حوت … وقد لاحظنا أن الرسائل العادية والحوالات والطرود البريدية لا تصل إليك إلا بصعوبة خاصة عندما تسكن في حيّ جديد أو غير مرقّم … وغالبا ما يعاد ذلك إلى المرسل بداعي عدم العثور على المرسل إليه في العنوان المذكور … ولكن ذلك مستحيل أن يحصل مع فواتير الماء والكهرباء … يصلون إليك مهما كان العنوان واضحا ام غير واضح، ومهما كان شارعك له اسم أم بلا اسم، ومهما كانت دارك مرقمة أم غير مرقمة، ومهما كنت موجودا أم غير موجود … دائما يجدون الوسيلة لكي يقذفوا تحت بابك بذلك الكمبيال الأزرق، وبمبلغه الأسود، محاطا بمستطيل أحمر، أو عين حمراء مفادها أنه أمامك يوم واحد للدفع أو القص … مع سلسلة أخرى من التهديدات تخلخل منك المفاصل والركبتين …
والله يكاد الواحد يجنّ قهرا … فقد كنت سأكتب عن عام الجفاف هذا، وعن حال السدود، والبحيرات الجبلية، وعن حسن التصرف في معيننا الشحيح أو ما تبقى منه، وعن أفكار جديدة لاقتصاد الماء، وعن، وعن … ولكن بعد أن ينتهي أولا هذا الانقطاع الفجئي لحنفيات حومتنا كلها … والعائلة بدل توجيه اتهامهم للشركة المذكورة أعلاه ودولتها وسياستها ومسؤوليها … يصوبون نيران شكوكهم نحوك متسائلين بغضب: هل أنت متأكد أنك خالص مع فاتورة الحاكم؟؟؟