استقبال رئيس الدولة للغنوشي و المشيشي ثم استقباله للطبوبي أمس هو تمهيد دون أدنى شك لإطلاق مبادرة سياسية كبيرة أملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد التردي المخيف للأوضاع و انعكاسه على سلامة أسس الدولة نفسها بدرجة غير مسبوقة و ليس لها مثيل في تاريخ تونس باعتراف الجميع … و لئن كانت استجابة الرئيس لطلب تدخله من أجل انقاد الدولة متأخرة فان ما يرتجيه كل أصحاب النوايا الصادقة أن يحسن رئيس الدولة توجيه البوصلة نحو الوجهة الأكثر أمانا …
فاليوم لم يعد الوضع يستدعي عزل حكومة و تشكيل أخرى و كفى الله المؤمنين شر الاقتتال … أولا لأن هذا التمشي دأبنا عليه منذ 2011 و رغم تناسل الحكومات فإن الأحوال لم تزدد إلا سوءا … و ثانيا لأن الفرقاء أثبتوا بالدليل القاطع أنهم غير مكترثين لما يحصل في البلاد من مصائب إذ كل شغلهم منصبّ على كيفية ابتزاز الحكومات ثم رجمها متى لم تعمل في ركابهم…
إن دور رئيس الدولة هام و حساس للغاية في هده المرحلة العصيبة من تاريخ تونس و المطلوب منه نزع جبة الطرف السياسي و الظهور بمظهر رجل الدولة القوي و الذي يستمد قوته من الدستور و القانون و من كونه حامي مرتكزات الدولة و مكتسبات الشعب و ممتلكاته … و لا جدال في أن قيس سعيد متى اقتنع بأن مصير البلاد على كف عفريت، قادر على إيقاف النزيف و العبث بما يحظى به من مساندة طيف كبير من المتشبثين بأمل الإنقاذ … لكن كل ذلك سيظل مرتهنا بطبيعة المقاربة التي سيعتمدها للقطع مع السائد و الدخول في مرحلة الإصلاح الحقيقي على مختلف الأصعدة…
صحيح أن المهمة لن تكون سهلة بالمرة لذلك يتحتم عليه و على كل من يتعهد معه بتحمل أعبائها أن يتخلصوا من الخدعة القائمة على تحميل الحكومة مسؤولية ما آلت إليه الاوضاع … يجب أن يقر الجميع بأن علكة فشل الحكومات المتعاقبة لن تجدي نفعا و أن المطلوب الآن هو مراجعة المسار برمته و تشخيص الأسباب الحقيقية دون مواربة و دون المناورات التي صارت ممجوجة و سخيفة و منافقة … على رئيس الدولة أن يدرك أن المشهد السياسي القائم اليوم لا يصلح لبناء ديمقراطي سليم و لا يمكن من السماح للخبرات التي تعج بها البلاد من بسط سياسات و إستراتيجيات من شأنها أن ترسم بوضوح خططا لإنقاذ البلاد على المستويين المتوسط و البعيد …
عليه أن يدرك أن إدخال مكونات الشعب في متاهات المعارك الإيديولوجية السقيمة لم تخلف غير التناحر و التباغض و أن تصنيف مكونات المشهد السياسي على أساس الصراع المجتمعي لم يترتب عنه سوى تفكك أواصر الدولة و شيوع منطق الغصب و حتى تبرير نوازع الإرهاب … لكل ذلك لا نرى جدوى من حوار من أجل تقديم توليفة حكم جديدة … إن المطلوب اليوم و بشكل لم يعد يحتمل التأخير الشروع الفوري في إرساء مؤسسات الدولة على قواعد صحيحة … المطلوب إنشاء المحكمة الدستورية و تحصين القضاء من كل نوازع التوظيف و التجريم نصا و ممارسة لكل صنوف إذلال الدولة و خاصة منها المقاومة الفعلية للفساد بأنواعه عبر قضاء صارم و أجهزة تنفيد مدعومة و محمية و منها التصدي الحيني لكل أشكال الاعتداء على المؤسسات و التجهيزات العمومية و ممتلكات الشعب … و منها فك الأغلال عن موظفي الدولة و تحصينهم من ممارسات الترهيب و الترغيب التي لم تعد خافية على أحد …
و لعل أهم مؤشر عن الشروع الحقيقي في الإصلاح هو إطلاق يد محكمة المحاسبات لاتخاذ كل إجراء قانوني يتناسب مع الخروقات المرتكبة حتى لو أدى الأمر إلى إجراء انتخابات جديدة تعبر بصدق عن إرادة الشعب … و يقيني أن للرئيس دورا كبيرا في إعادة توجيه البلاد وفق بوصلة سليمة بل أجزم أن هذه الفرصة قد لا تتاح له مرة اخرى و كل هذا لن يتحقق طبعا إذا ما اكتفى بقاعدة… “مشكي و عاود من جديد” … لأن نفس الأسباب تؤدي الى نفس النتائج…