مظاهر وأفكار في التربية والتعليم … كم تشبهنا نحن التونسيّين !
نشرت
قبل سنتين
في
عندما تُصغي بانتباه إلى ما يقوله التونسيون من حولك في مجالات التربية والتعليم (والتوجيه المدرسي والجامعي بصورة خاصة)، تُدرك بيُسر أنهم يُكرّرون من حيث لا يشعرون جملة من الأفكار المُسبقة والاعتمالات النفسية والتمثّلات الاجتماعية التي تخدع نظرتهم للعالم وعلاقتهم بالمجتمع وتصوراتهم حول مكانة الفرد وما يصنع مستقبله ومجْده.
هذه بعض الأفكار الطريفة المسجّلة في خطاب الناس التي أتقاسمها معكم والتي تتردّد بانتظام بالشكل الذي يجعل منها عناصر ثابتة يجدر الاهتمام بها والنبش في تفاصيلها علّنا نفوز ببعض الحقائق التي تساعدنا على فهم عديد الظواهر، كخطوة أولى باتجاه معالجتها والتأسيس عليها :
ولدي يحبّ يعمل تكوين جامعي
هاتفتني مواطنة متسائلة عن الإمكانيات المتاحة بالنسبة لمن يرغب في متابعة تكوين جامعي بعد الباكالوريا. فسألتها : “وهل تحصّل على توجيه نحو إحدى الشعب الجامعية في الدورة الأولى ؟” أجابتني “لا،هو يرغب في تكوين جامعي”. قلتُ : “ولكن الالتحاق بالجامعة هو تكوين جامعي أيضا !”… المهم فهمتُ بعد عناء أنها تقصد “متابعة الدراسة بمنظومة التكوين المهني في مستوى مؤهل تقني سام” وهو ما يعادل على نحو ما التعليم العالي في الاختصاصات التكنولوجية.
ويُدعّم هذا الاتجاه المُوارب في تفكير بعض التونسيين حِيال التكوين المهني سعي بعضهم إلى عدم نطق تعبير “التكوين المهني” ويستبدلونه بمرادفه الفرنسي “يحب يعمل formation “.
لا أنطق بشيء جديد إذا قلتُ إن هنالك نظرة دونيّة يستبطنها المجتمع تجاه التكوين المهني الذي يعتبره مسارا للفاشلين مدرسيا وجامعيا وملاذا للفقراء الذين لا يقدرون على السّير في الطرقات السريعة التي تتطلب عربات رباعية الدفع، لكن الفكرة التي قد تكون جديرة بأن نتداول بشأنها هي : كيف نُعيد الاعتبار للتكوين المهني شكلا وصورة،باعتباره رافدا أساسيا في إقدار الشباب على أن يكون له موقع يُشبه طموحه ويحفظ كرامته ويفجّر فيه كل طاقاته الإيجابية المكتومة ؟ أرى شخصيا أنه يتعيّن (حتى وإن عجزت الدولة تاريخيا رغم بعض المحاولات) تجميع “أعضاء الجسم التكويني الواحد” وإعادة تركيبها بما يحفظ انسجامها واتساقها ووحدتها، يتعيّن التعاطي اتصاليا مع التكوين المهني باعتباره جزءا لا يتجزأ من منظومة شاملة وموحّدة. ومن ناحية أخرى يمكن أن نتخلى نهائيا عن هذه التسمية المحفوفة بالدلالات السلبية لفائدة تسميات تُحيل على الكفاءة والمستقبل والاقتدار مثل “التعليم التكنولوجي” أو “المسار الممهنن” أو “التكوين الاختياري” أو “الباكالوريوس التكنولوجي” … وتفعيل “الباكالوريا التكنولوجية” المُفضية إلى كل ما هو مُتاح بعد الباكالوريا التقليدية.
علينا أن نتذكّر دائما أن جورج هاريسّون عازف القيثارة الشهير في مجموعة البيتلز هو صانع كهربائي في الأصل، وأن الممثل القدير فابريس لوكيني بدأ صانع حلاّق وآلان دوكاس صاحب النجوم في أدلّة ميشلان لفنون الطبخ والمصنف الشخصية رقم 94 الأكثر تأثيرا في العالم الذي بدأ حياته عاملا بمطعم، وإيميه جاكيه مدرب الفريق الوطني الفرنسي لكرة القدم بطل العالم في 1998 والذي كان عامل فولاذ ولم يتجاوز مستوى شهادة الكفاءة المهنية.
بنتي حسّاسة وما تتحمّلش البُعد
من الأعذار المستعملة من قِبل الأولياء لتبرير ضرورة نُقلة أبنائهم وبناتهم وإعادة توجيههم بعد الباكالوريا، أن منظوريهم يعانون – دون خلق الله- من حساسية مفرطة ومشاعر رهيفة وعدم قدرة على التكيّف مع الأوضاع الجديدة خاصة عندما تكون في المناطق الداخلية غير المحسوبة تقليديا على التّرف ورغد العيش. الغريب نسبيا في هذه السرديّة هو “التمحور المفرط للتونسي على ذاته“، إذ لا يوجد في الدنيا أطفال في مستوى رهافة إحساس أبنائه، وبنات في مستوى جمال بناته …أما أبناء الآخرين – ضمنيا- فهم عديمو الحساسية والإحساس ومحمولون على تحمّل البُعد والاغتراب والاكتئاب.
بنتي أعطاوها حاجة ما طلبتهاش
“خرجت النتيجة اليوم واللي طلبتّو بنتي الكل ما خذاتوش، عطاوها شعبة ما طلبتهاش وثمة أشكون أقل منها وخذا اللي حبّ عليه…” جُمل تتردّد سنويّا على ألسن مئات الأولياء محاولين إيهامك وإيهام أنفسهم أن هنالك تلاعبا بالنتائج (وهو حبل غسيل مُستخدم جدا في رُبوعنا لتبرير التقصير الذاتي وعنف الواقع الموضوعي الذي لا ضمير ولا تعطّف أو إشفاق لديه) وأن منظوره لا يتحمّل أية مسؤولية فيما يحصل له… فهي مسؤولية المنظومة التي لم تُراع شهوة الأفراد وحلمهم الجيّاش الذي لم يصنعوا له شراعا وأجنحة.
سجّلت ولدي في الجامعة الخاصة الفلانية لأن الجامعة العمومية ماعادش فيها !
هنالك من الأولياء من ينطلق بصفة مبكّرة جدا في متابعة كل تفاصيل “ما بعد الباكالوريا” من معدّلات ومجموع نقاط وترتيب وطني وتنفيل ودورات خاصة بالمتفوقين واهتمام دقيق بعروض معيّنة في الجامعة العمومية التونسية (وليس كلها) … ويحتسبون مجموع أبنائهم بدقّة قبل “حواسيب التعليم العالي” …وفجأة، عندما تصدر النتائج ولا يحصلون لأبنائهم أو بناتهم (من الواضح أنه مشروع للكبار أكثر منه مشروع للشباب المعني) على التوجيه المناسب وفق تراتبيّة اعتباطية تستلهم عناصرها مما يتم تداوله في الأوساط الاجتماعية المختلفة، ينهالون عليك بـــ “الخطة ب البديلة” وهي تسجيل أبنائهم بالجامعات الخاصة لأنها تضمن تكوينا جيدا وتأطيرا أفضل من الجامعات العمومية…قبل النطق بالجملة النهائية القاتلة التي مفادها أن التعليم العمومي ولّى عهده وأن الجامعة التونسية أصبحت مختصة في “تكوين العاطلين عن العمل” كما جاء على لسان أحد المدوّنين الأشاوس في القناة الوطنية الأولى منذ أيام.
فلو تحصل على شعب بذاتها لما فكّر أصلا في التعليم العالي الخاص. وهنا لا بد من التأكيد على أن نجاعة التكوين وجودته العالية في مجالات بعينها في الجامعة التونسية (وخاصة المراحل التحضيرية والدراسات الهندسية والاختصاصات المتصلة بالإعلامية والشبكات والبرمجيات واللغات والهندسة المعمارية والاختصاصات شبه الطبية…) هما اللذان دفعا بالتعليم العالي الخاص إلى بعث نفس هذه المسالك في مؤسساته لمعرفته المسبقة بكثافة الإقبال عليها وبالتالي ضمان توافد “الحرفاء”.
أغلب المتّصلين على الرقم الأخضر…هم أولياء !
هناك ظاهرة غريبة لا أعتقد أنه ثمة مثيل لها في باقي بلدان العالم، وهي أن أولياء الحاصلين على الباكالوريا (أي أولياء شباب تتراوح أعمارهم بين 19 و 20 سنة) هم الذين يتولّون بأنفسهم متابعة توجيه أبنائهم والتساؤل عن تفاصيل اشتغال المنظومة وإمكانيات التعديل المتاحة وأهمية ترتيب الاختيارات والآجال… وحين تسألهم عن بعض التفاصيل الدقيقة المتصلة بالمعدلات وأعداد بعض المواد المميّزة يعودون إلى بناتهم الواقفات غير بعيد عنهم، أما الأبناء فهم بصفة عامة “ماك تعرف الشباب … خرج مع اصحابو”.
وتفسّر هذه الظاهرة حسب تقديري بشيئين مهمّين :
– لقد ربّينا أجيالا كاملة على “النوم في حضن أمي” والتعويل على الآباء في كل كبيرة وصغيرة بما جعل أبناءنا لا يتمتّعون بهامش كبير من الاستقلالية والتعويل على الذات والتصرّف بفاعلية مع مفاجآت النقل العمومي أو مجابهة المتصيّدين والمشعوذين والتعاطي مع مقتضيات الفضاء العام بصورة عامة.
– لدينا جميعا، نحن الكهول، نزعة لأطفلة أبنائنا حتى وإن كبروا وخوف مبالغ فيه عليهم وعلى مستقبلهم… يؤدي بالضرورة إلى إعاقة النمو الاجتماعي الطبيعي لأطفالنا الذين تعوّدوا بأم تتكلّم مكانهم وأب يتولّى توصيلهم إلى حيث يدرسون وترتيب بيت لا يبذلون فيه أي جهد، فنؤثر من حيث لا نشعر على قدراتهم الاتصالية مع الآخر وتدبّر شؤونهم الحياتية وحتى الزوجية أحيانا.