اليوم تحل الذكرى السبعون لاغتيال أهمّ رمز لحركتنا الوطنية مطلقا … فعلا، وبعيدا عن العواطف المضطرمة في هذا الاتجاه أو ذاك، فلا أحد في عصرنا الحديث قدم لتونس الشعب، تونس الحرية، تونس الكرامة، قدر ما قدمه فرحات حشاد … لا أحد، لا أحد.
مرت سبعون سنة مذ دفع الشهيد حياته ثمنا لم يدفعه غيره، و أعطى للبلاد فيما جناها سواه غنيمة طرية … وأكيد أن حشاد بذل الروح لحلم ما، لغاية نبيلة ما … فالشهداء من هذا العيار لهم أحلامهم و مقاصدهم التي تختلف جوهريّا عن وساوسنا الصغيرة و نظرنا القصير … وهم فصيلة منفردة أسمى ممن وُلدوا وعاشوا و ماتوا ميتة رب العالمين … جنس بشري على حدة هؤلاء الشهداء، و كم نخطئ حين نتحدث عن أبناء لهم و أحفاد، بمن فيهم القاطنين في دار الاتحاد … سبعون حوْلا على دمه المسفوح أمام المطبعة الرسمية، فبماذا حلم ابن قرقنة و ماذا تحقق من ذلك لتونس؟
هاهو الذي صار …
حلم بالاستقلال و السيادة … و قد تحقق ذلك و ها نحن نراه رأي العين خاصة عندما يتقرر مصيرنا في عاصمة الأنوار حيث تجتمع رؤوس تتفادى الاجتماع في تونس، بعيدا عن عيوننا المتطفلة و سؤالنا الفضولي: ماذا تفعلون؟
حلم بدولة مزدهرة اقتصاديا … و قد شبعنا ازدهارا إلى درجة أنك كلما شكوت من غلاء سعر ما، جاءك الجواب بأن السبب هو سقوط الدينار أمام اليورو، فكل شيء يأتي مستوردا … و كلما تابعت نشرة أخبار، شاهدت وزراءنا و رؤساء حكومتنا و معهم جبهيات من النقابيين و التقنيين و المستشارين، كلهم يمشي و يجيء على صندوق النقد … و غير مستبعد أن تراهم ذات مرة يحملون أولادهم على ظهورهم و يقرفصون أمام بوابة المنظمة المالية …
حلم بدولة متعلمة مثقفة … و قد حطّمنا أرقام أثينا و أوكسفورد في هذا الصدد وكيف لا؟ … كيف لا يكون ذلك و أنت تسمع مشاتل نوّاب الغد في حملتهم الانتخابية هذه، وحتى في الثلاث حملات التي سبقتها … و لا فضّ فوك يا من ختمت بـ “إنّا لله وإنّا إليه راجعون”
حلم بعلَم سامق مرفرف على ذُرى الدنيا قاطبة … و ها نحن ننعم بذلك و رايتنا الحمراء يستحيل لونها إلى “روز” ثم أبيض ثم رمادي متسخ مهلهل فوق إدارتنا التي نسيت تغييره منذ دهر … و في أحايين كثيرة تجده منكّسا كأننا في حداد وطني بثلاثة أيام، بل بثلاثة قرون …
حلم بدولة قانون و حق و عدل … و قد وافقه تماما عضو غاضب من أحد الأحزاب الكبرى في تسريب هاتفي، عندما قال إنه دفع “إكرامية” (كما يقول إخواننا الشوام) بأربعمائة باكو … كي ينقذ أربعة أرانب مهرّبة لا غير.
حلم بمجتمع راق يقتحم العصر و يصبح من روّاده … و قد كنّا مثالا في ذلك و نحن نفني الأسابيع و الأشهر لا شغل لنا إلا البحث عن اسم عشيق ريم الرياحي الذي ضبطه زوجها معها …
حلم حشاد و أمثاله من كبار الشهداء … حلموا و حلموا وحلموا، و بالإمكان الاسترسال في تعداد أحلامهم و ما حققناه منها … و لا أدري إن عرفوا ما سيحدث بعدهم، هل كانوا سيبذلون روحا غالية و دما عزيزا … لأجل شعب حلمه الأقصى، علبة حليب من مغازات عزيزة.