عندما تسمع و تقرأ ما يقال و ما يكتب منذ مدة إلى هذه الأيام، تشعر أن الدنيا توقفت و السيارة تعطلت و لم يوقفهما و يعطلهما سوى فريق كرة … و هو السبب أيضا في غلق الحوض المنجمي وانقطاع الزيت و السكّر، بل و في انحباس المطر أيضا …
على بعد أيام من خوض منتخبنا أولى مبارياته في قطر، تنهال عليه الرعود والصواعق و الرواجم من كل جنب … لا من جمهور الدانمارك و لا من شعب أستراليا و لا من غواصات فرنسا، بل من خندق تونسي لحما و دما و عظاما و دعاء شرّ … هجومات عاتية لو كان لدينا منها واحد على مليون فوق الملعب، لأفنينا الـ 31 منتخبا الأخرى في ثوان و فزنا بكؤوس هذا العالم و العالم الآخر معه … قصف شنيع لم نر مثله في ثمانينات ما بعد الشتالي، حيث كنا نأكل بالسبعة من منتخبات أجوارنا، و لا حين أطلّ علينا ذات ناخب وطني مفتخرا بأنه خسر (فقط) أربعة أمام غانا، و تعفّنت أجواؤنا مرة فجُمّد المنتخب سنتين لأجل طارق و البياري، و ظللنا طويلا حقل تجارب لمتقاعدي التدريب و فاشليه في أوروبا الشرقية و فرنسا و إيطاليا إلخ …
لم نصبّ حقدنا الأعمى أيضا على جهاز المنتخب حين حصلت كارثة 1994، و تحوّل شرفنا الوطني إلى مداس بأقدام لاعبين أجروا مبارياتهم في حجرات الملابس بدل الميدان، و لكن في رياضة أخرى غير الكرة … و عندما وصلوا إلى المستطيل، أكلتهم مالي عشبا طريّا و أضحكت علينا البعيد و القريب … لم يغضب أحد وقتها على مسؤولين يتبجّحون بحسن التنظيم و استقبال الضيوف و إقامة حفل افتتاح بالعيساوية و البنادر … وكان كلّ همّهم أن يتصوّروا ضاحكين مع عيسى حياتو، و لا يهمّ إن جنحت سفينة منتخبنا و جرفها الواد، كأيّ أثاث خردة …
ما من منتخب في الكون إلا أثيرت حول تشكيله جدالات و اختلافات و خلافات، خاصة إذا شد الرحال نحو كأس العالم … و نحن لسنا البرازيل حتى نختلف حول هل يلعب رونالدو أم ريفالدو، و لا الأرجنتين هل يقودها باساريلا أم مارادونا … عندك لاعبون هم هكذا، موهوبون أم أنصاف موهوبين، من بطولتنا أم من سلالات التونسيين والتونسيات بحسب موجات الهجرة (و حتى الحرقة) عبر نصف قرن من الفقر و مدّ اليدين لجيران الشمال … فما حيلتنا؟ حتى التجنيس جرّبناه و معه التدنيس و التدليس، و لم يبق شخص تقريبا لم يجرّب حظه مع الزي الوطني … تماما كأسراب المواطنين الذين اشتركوا في حكومات 11 و رُد لتالي … فمن بقي؟
لا يبقى سوى أن نقف وراء تلك المجموعة من شباب تونس على أية حال … سيبذلون عرقا و دما و أوجاعا وصدامات و إصابات و هم يواجهون عتاة اللعبة … مبابي و بنزيما وحدهما يشعرانك بالدوار و أنت هانئ في مقعدك، فكيف بأولادنا …
ندعهم يواجهون و يكافحون و يخطئون و قد يصيبون لا أحد يعرف … نترك الحساب لوقت الحساب، أما الآن فنتوقف قليلا عن حملة السلخ التي طالت، و نهتف فقط مشجعين داعين لهم بالنجاح و الفلاح، فهم الآن من يملكون أزرار فرحتنا و حنفية دموعنا … و من لا يقدر على ذلك، هل يمكن على الأقل أن يلتزم معنا بما يشبه الصمت الانتخابي، و يغمد سيفه حتى انتهاء اللعبة؟