دفءُ نار

منصف الخميري: متفائل جدا … وهذه أسبابي*

نشرت

في

يُقال إن المتفائل هو رجل يزرع ثمرة بلّوط ثمّ يشتري أرجوحة شبكيّة.

<strong>منصف الخميري<strong>

يكفي أن تشاهد الشّاشات التونسيّة لمدّة ربع ساعة لتجد نفسك أمام ترسانة من المصطلحات والتعابير من قبيل “الوضع كارثي وبلاد على حافة الإفلاس ولن نخرج من النفق وبلاد لم تعد قابلة للحوكمة وعجز الميزانية والصناديق ودكتاتورية عصابات الفساد والإفساد وبلاد على مشارف الهاوية وتفاقم نسب التسرب المدرسي واستفحال ظواهر الجريمة بأنواعها والهجرة غير النظامية والموت عبر البحار والمحيطات والمأزق الدستوري وتأزيم المؤزّم وتأثيم المؤثّم…”. وهي أنغام أضحت من البهارات الأساسية التي تُضاف إلى مداخلات الإعلاميين والاحتجاجيين والسياسيين وحتى من هم ماسكون بالسلطة أو أمسكوا بتلابيبها ذات يوم وأدّوا واجبهم المقدس في زرع بذور نكد الواقع الراهن للتونسيين.

وأمام “كارثية” الخطاب الكارثي السائد والمُنذر بتصاعد منسوب الشّقاء والشؤم في بلادنا والمُنبّه إلى اقتراب ساعة الفناء الأخير، لا يسعُنا إلا أن نستجمع أكثر ما يمكن من حطب التفاؤل ونوقد به نارًا تقينا لسْع المتشائمين ونكد المتطيّرين و غمّ النّادبين وحزن النّائحين واكتئاب المُغرّدين (بالمعنى الزراعي) وتحمينا من تلويحهم الدائم بحلول ساعة الحتْف.

وهذه فيما يلي بعض الأسباب الميدانية الملموسة وغير المُتخيّلة التي تجعلني شخصيا متفائل جدا بمستقبل هذا البلد الذي سينتصر في النهاية على مواطن الإحباط وعدم الاطمئنان بين ثناياه :

  • في 2011، كان لدينا نظام هشّ بَنَى مشروعيّة استمراره بصورة أساسيّة على مقاربة الأمن الكلّي والكلّ الأمني، انهار فجأة  تاركا شعبًا أعزل تتناهشه الضّباع وأكلة لحم الخيول الميّتة وتتصارع أعضاءَهُ مخابرات العالم ومختبراته… ولم نتهاو تماما، بل صمدنا وقاومنا وتعالينا على جراحنا وذُدنا عن مكتسباتنا وواجهنا بتعصّب شديد كل محاولات التدجين واستباحة هويّتنا وكل ما يجعل التونسي تونسيا.  تذكّروا فقط طبيعة مناخ التجييش وإشهار سيوف الذبح في 2012 و 2013 لتُدركوا هوْل ما كان يتهدّدنا وحجم المذبحة التي كانوا يُعدّونها.
  • تحتل تونس المرتبة الثانية عالميا في نسبة النساء المتخرجات من شُعب التعليم العالي ذات المنحى العلمي (علوم وتكنولوجيا وهندسة ورياضيات) بــــ 58 بالمائة، متقدمة على فرنسا وايطاليا وسويسرا حسب التصنيف العالمي الذي نشره البنك العالمي خلال شهر ماي 2019 والذي شمل 114 بلدا وذلك في الفترة المتراوحة بين 2015 و 2017، بما يؤشّر على جودة التحصيل العلمي والتكنولوجي لأبناء تونس (وخاصة الفتيات) وتألّقهم في كبرى الشركات العالمية الذي يُعدُّ من مفاخر شعب تونس ومصدرا لاعتزازه ونخوته. والذي يزيدني أنفة شخصيا في هذا المجال هو مساهمة هذه الحقائق في الإطاحة ولو بصورة نسبية بمقولات الحتميّات الاجتماعية  وإسقاط شعار الإفلاس النهائي لمدرستنا العمومية من ناحية أخرى. دون أن نتغافل عن قيمة المرتبة الثالثة التي تحتلّها بلادنا إفريقيا في تمدرس الفتيات بين 6 و 15 سنة بنسبة 91.4 .
  • في منتصف القرن الماضي، طحَانا المحتلّ الفرنسي ودمَّرَنا وحمل معه كل مقدراتنا وكفاءاته ووجدنا أنفسنا بلا مدرسة ولا مستشفى ولا نقل ولا غطاء ولا حساء ولا كساء… ولكن استطعنا أن نبني دولة من صفر تقريبا، دولة بعَلَمها وأعلامها وجيشها وأمنها وجامعاتها ومدارسها وإذاعاتها ومصالح رصد جوّها، وذلك بفضل نُخب تونسية نافذة البصيرة وجمهور واسع تصرّف إلى حدّ ما كما تصرّف الألمان بعد دمار الحرب العالمية الثانية. صحيح أننا لم نحقّق ما حققته التّنانين الأسيوية الأربعة (تايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ) لكننا بَنيْنا شيئا ما نستطيع أن نُراكم عليه في المستقبل.
  • تواجد التونسيين على امتداد كل بلدان العالم تقريبا بعدد يُقارب المليون ونصف مُوزّعين على 180 دولة، (من الفيجي وزيلاندا الجديدة والسّيشيل إلى رواندا والرأس الأخضر و بورندي)، هذا الشتات يمكن أن نقرأه على أنه مؤشر لسرعة الاندماج والقدرة على تعلّم اللغات واكتساب المهارات اليدوية التي تقتضيها المهن التي يزاولها التونسيون المهاجرون وربّما بالقدرة أيضا على الظهور بمظهر المواطن العالمي ذي السلوك السّوي والسّخي وغير المتعصّب والبشوش صاحب المقبولية العالية. وقد نشترك في هذه الخاصية الفريدة مع أشقائنا اللبنانيين الذين يُلبننون الحياة حيثما حلّوا ويكسبون ودّ الجميع.
  • وقوع تونس في مفترق العالم قديما وحديثا والدور التاريخي الذي لعبته قرطاج عاصمة الامبراطورية البونيقية ومؤسستها علّيسة الصّورية (من صُورْ) وكل الأسماء التي اقترنت بالأمجاد والفخامة والعظمة مثل القيروان كأول مدينة أسّسها العرب في شمال افريقيا وشط الجريد الذي كان على ما يبدو مقر إقامة ميدوسا (ثالث الأخوات غورغون) والأبطال حنبعل وماسينيسا والكاهنة (أنظر بهذا الخصوص مقال كريستين دارمانياك “تونس، خارطة الكنوز الأثرية”)… كلها مؤشرات على أن هذا البلد الصغير الكبير ليس مجرّد شُرفة تُطلّ منها إفريقيا على المتوسّط.

وقد ألهم اسم قرطاج الأمّ حوالي 70 مدينة وموقعا عبر العالم في أوروبا و إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الامريكية التي تبنّت تسمية قرطاج أو قرطاجنة أو كرطاغو الخ…. فحتى قرطاجنة الفيليبينية تستلهم اسمها بشكل صريح من أسطورة قرطاج التونسية وكذلك بلدة قرطاج في صحراء السودان. (أنظر بهذا الخصوص كتاب المؤرّخ رضا التليلي “قرطاجات العالم”).

  • كان للتونسيين أيضا في تاريخ الانسانية امتياز إلغاء الرق بصفة مبكّرة وإبطال تعدد الزوجات كممارسة بدائية وقروسطيّة تُحقّر المرأة وتدوس كرامتها وإقرار تمدرس الفتيات على نطاق واسع وتدخل الدولة بصفة قوية في فتح المدارس امام الجميع وتزعّم الحركة النقابية العربية والعالمية وتطور حركة الشعر والأدب والمسرح والسينما عبر السنين… إسهامات نوعية مارست عدْواها الإيجابية وأنسنت التونسيين في مواجهة بقية شعوب العالم.
  • تونس مُصنّفة الأولى عربيّا اليوم في حرية الصحافة والأولى من حيث الربط بالانترنت بنسبة 64 % حسب الاتحاد الدولي للاتصالات… وهي مكاسب ستساهم بالتأكيد رغم الصعوبات الحالية والنتائج العكسية في بعض الأحيان في الارتقاء بوعي المواطنين وتحصينهم ضد تغوّل السلطة من ناحية ومسالك الانحراف المختلفة من ناحية أخرى إذا عرفنا كيف نربّي أبناءنا على وسائل الإعلام والاتصال.
  • كما تحتلّ تونس المرتبة الأولى عربيا وافريقيا (المرتبة 43 عالميا) في قدرة الاقتصاد على التجديد حسب تصنيف مجلة “بلومبرغ للتجارة” الأمريكية بمجموع يساوي 49.83 /100. ويقيس مؤشر بلومبرغ تأثير التجديد عبر سبع مقاييس هي البحث والنمو والقيمة التحويلية المضافة والإنتاجية وتركز التكنولوجيا العالية ونجاعة قطاع الخدمات وتمركز الباحثين وعدد براءات الاختراع.
  • وحتى يتدعّم تفاؤلي عربيا، أختم بأسطورة صمود سوريا في وجه أكبر تحالف عالمي عبر تاريخ البشرية وزحف جيوش جرّارة متكونة من أعتى إرهابيي العالم الأجود تدريبا في الشيشان وأفغانستان والبوسنة… يحملون 80 جنسية مختلف (كنا ممثلين ضمنها كتونسيين أحسن تمثيل، لكن هذا الوجه القبيح سيظل أقليّا ومنبوذا ومتآكلا مع مرور الزمن). فحتى الصهاينة فتحوا مستشفياتهم لاستقبال الجرحى وجُنّدت الناقلات التركية لسرقة النفط السوري والمخطوطات والآثار السورية… ولم تسقط سوريا ولم يتم تقسيمها وظلت شامخة وبدأ الشعب السوري يستعيد عافيته تدريجيا مُعلنا نهاية المؤامرة الخارجية وترك حسم المعركة الديمقراطية الداخلية إلى القوى الخيّرة الغيورة فعلا على بلدها ومستقبل شعبه.

أنا لست متشائلا ولا متفائما، أنا متفائل جدا لأنه بدون هذا يكون الانتحار الجماعي لائقا بنا أكثر.

* تمّ إعداد الورقة في جزئها الأكبر قبل نزول مركبة برسيفيرونس واكتشاف أن تونس ساهمت في غزو المريخ من خلال العالم محمد عبيد المهندس بوكالة ناسا.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version