“من أسرار التاريخ” موعد دوري على التلفزيون الفرنسي يدوم حوالي 100 دقيقة يتناول بالتّحليل والتّعريف والتّقليب واحدة من أعرق الشخصيات الفرنسية والتاريخية عموما وينشطها الصحفي والمنشط ستيفان بارن “المهووس بالرؤوس المتوّجة” أي مصير العائلات الملكيّة. اشتغل على نابليون وكليوباترا ونيفرتيتي ورمسيس الثاني وملوك فرنسا وملكاتها وتشرشل وجان دارك وبيتهوفن ودا فينشي … ويصل عدد متابعي هذا الانتاج التلفزي التاريخي إلى 3 مليون مشاهد.
هي دروس شيّقة في التاريخ المتلفز بإمكانيات تقنية وفنية ضخمة يتضافر فيها التمثيل السينمائي ومهارة الحكي الشفوي وزيارة المعالم والقصور والقبور وإطلاع المشاهد على نسخ فريدة من الانتاجات الفلسفية أو الأدبية والشعرية الفريدة … لإنتاج أثر تلفزي يشدّ المشاهد ويأسره ويُطلعه على جوانب منسية أو مسكوت عنها في تاريخ الشخصيات التي يتمّ تناولها.
دافعان أساسيّان جعلاني أهتم بهذه النافذة الثقافية المُمتعة والمُلهمة : ما تعلّمته شخصيا لأول مرة حول فولتير خلال الحصة الأخيرة (الاثنين 3 ماي 2021) والسؤال من ناحية ثانية حول حقيقة الأسباب التي تجعلنا عاجزين عن إنتاج مثل هذه البرامج حول أعلامنا وأدبائنا وشعرائنا وسائر الأسماء التي طبعت تاريخنا تونسيا وعربيا وإفريقيا، تؤثّث بشكل موضوعي من قِبل كبار المؤرخين والمختصين والباحثين وينتجها تقنيون يعرفون جيدا كيف يجعلون المشاهد يتفاعل معها ويُقبل عليها.
ما لا نعرفه جيّدا حول فيلسوف الأنوار فولتير
كان فولتير يتجوّل مع صديق له، وفجأة رفع قبّعته لتوجيه التحية نحو رجل دين اعترضهما في الطريق. كان صديقه يُدرك ازدراءه للكنيسة، فبادر بالإعراب عن استغرابه متسائلا : “عجبا، أتصالحت مع الله؟” فأجابه فولتير “لا، نحن نتبادل التحايا ولكن لا نتحدّث إلى بعضنا البعض”. هذه الطرفة تُلخّص بشكل مَا العلاقة الملتبسة بين الفيلسوف والدّين.
فولتير هو الاسم المستعار الذي صنعه الفيلسوف لنفسه خلال فترة سجنه في 1717 التي دامت 11 شهرا للإفلات من قمع الكنيسة ورقابة رجال السلطة السياسية. أبهر أساتذته ومعلميه منذ صغره بقدرته الفائقة على نظم الشّعر وإمكانياته الخارقة في الجدل والمحاورة. قرر فرانسوا ماري آرويه (فولتير) منذ سن الــ 17 سنة أن يعتاش من قلمه وشاع اسمه سريعا في الصالونات وقصور النبلاء بفضل مهاراته الاستثنائية في السجال والمناقشة لكن أفكاره الحدّية الضّارية سببت له أذى كبيرا.
سُجن مرتين بسبب كتاباته ولم يطلق سراحه في المرة الثانية إلا بعد قبوله بالنّفي الاختياري نحو انكلترا حيث اكتشف الهامش الكبير للحريات العامة والفردية التي يتمتع بها الانجليز.
في 1758، اشتري فولتير قصر فيرناي لتبدأ الفترة الأكثر حيوية في حياته، هذه القرية الصغيرة التي تضاعف عدد سكانها عشرات المرات بفضل الأنشطة التي أدخلها فولتير وخاصة ورشات تصنيع السّاعات الفاخرة والتي كان يبيعها في كل أصقاع العالم (وحتى الى امبراطورة روسيا التي أقنعها بأنها طلبت 100 ساعة بدلا من 4 فقط) خاصة بعد استقدام كفاءات من مدينة جينيف التي استقر بها فولتير عديد السنوات قبل تهجيره منها لأن المجتمع السويسري كان يرفض رفضا شديدا العروض المسرحية التي كان الكاتب ينظمها في مقرّ سكناه.
يُعتبر من أكثر الكُتّاب غزارة في الإنتاج في القرن 18، كتب زاديغ و كانديد والقاموس الفلسفي وهو صاحب أكثر من 25000 بيت شعر و50 عملا مسرحيا و 23000 رسالة تبادلها مع كبريات الشخصيات المميزة في عصره. وبصرف النظر عن الأجناس الإبداعية التي لجأ إليها، فقد تميّز فولتير بصفة خاصة من خلال إدانته الشرسة للنظام الملكي ومعارضته للحيف الاجتماعي والمظالم السياسية والحروب والتعصب الديني.
لمّا توفي فولتير في سنّ 83 سنة، تجرّأ اين أخيه مينيو وصديق له على اتخاذ القرار بوضع الجثمان داخل عربة وإيهام المحيط العائلي بأنه يستعد للقيام برحلة مفاجئة حتى يتمكنا من دفنه سرا في مقبرة سليير قرب مدينة “تروا” شرقي باريس. ولتأمين هذه الرحلة التي ستستغرق وقتا طويلا (180 كم) كان لا بد من تحنيط الجسد. فتم اللجوء الى صيدلاني مقرّب من مينيو للقيام بالمهمة ولكن هذا الأخير اشترط أن يقوم بتشريح جثة فولتير لسحب مخّه وقلبه والاحتفاظ بهما في أواني مملوءة بأخلاط كيميائية لمنع تحللها. وسُمح أخيرا بتنظيم جنازة دينية مثلما طلب فولتير قبل موته ببضعة أيام بعد الاستظهار بـــ “بطاقة الاعتراف العقيدي” الممضاة من الأسقف غوتيي والذي بموجبها “دفن فولتير في ارض مسيحية”.
كتب قبل أن يموت “أموت وأنا عاشق لله، مُحبّ لأصدقائي، غير كاره لأعدائي ومستنكر للتطيّر”.
الغريب حسب رأيي في هذه الحلقة من “من أسرار التاريخ” التي خُصّصت لفولتير هو سكوتها أو إثارتها بكثير من المجاملة للوجوه غير المُضيئة في مسيرة فولتير وحياته مثل تحامله على الدين الاسلامي والنبي محمّد بخطاب هجين لا يليق بكبار الفلاسفة واعتباره اليهود “شعبا بغيضا يتحمل مسؤولية الملاحقة التي يتعرض لها” واحتقاره للمرأة بشكل فجّ واتخاذه لابنة أخيه عشيقة له طيلة سنوات عديدة (يعتبر البرنامج أن هذه الظاهرة كانت أمرا طبيعيا في تلك الفترة) .
تخيّلت حصة ينتجها التلفزيون التونسي وتخصص لابن خلدون وأسباب سفره الى دمشق في 1401 وتدخّله لدى تيمور الأعرج الذي غزا المدينة حتى لا تزهق مزيدا من الأرواح وأخرى تُخصّص للمنصف باي والدور الذي لعبه خلال الحرب العالمية الثانية في دعم نشاطات المناضلين الوطنيين وحماية جميع شرائح الشعب التونسيين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية.
ويمكن صياغة سيناريوهات لعشرات الشخصيات المهمة الأخرى من قبيل الطاهر الحداد ومحمد علي الحامي والحبيب بورقيبة وعزيزة عثمانة …