وهْجُ نار

من أيقظ غول الحقد بيننا ؟…

وهل ينهي قيس سعيد قصّة قابيل وهابيل قبل نهايتها؟

نشرت

في

سؤال يخامرني منذ مدّة، لنقُلْ منذ سماعي الخطاب الأول لساكن قرطاج…”لماذا اختار قيس سعيد استعداء كل مكونات المشهد السياسي الذي سبقه ولم يكن فيه ولا من رجالاته، وهل بذلك الخيار سيكسب ودّ الشعب وسينجح في البقاء في قرطاج لولاية ثانية؟”

<strong>محمد الأطرش<strong>

لا أظنّ ابدا أن الرجل لا ولم يدرك خطورة خياراته على مستقبله السياسي وعلى كتابة اسمه في التاريخ، فالرجل وبعد مُضي ثلاث سنوات بالتمام والكمال لم يتقدّم خطوة واحدة في إصلاح حال البلاد، ولم يراوح حتى مكانه بل عاد بالبلاد إلى سنوات التسوّل والاحتياج والمساعدات الدولية، ولم ينجح في تحقيق إنجاز واحد يسجّل باسمه غدا في كتب التاريخ…فالرجل نجح فقط في توسيع الهوّة بينه وبين الشعب، وفي انحسار عدد اتباعه، وفي زرع الشعور بالندم في أذهان كل من صوّتوا له واختاروه لكرسي قرطاج قطعا للطريق أمام خصمه وليس حبّا فيه…فحصيلة سنوات حكم ساكن قرطاج جوفاء وخالية من كل إنجاز ينفع الناس، لكنها مليئة بالتيه، والحقد، والانقسام، والضياع، والظلم، والقهر، والفشل، والتخلف، والمرض، والمعاناة، والانتظار…انتظار شيء لن يأتي…انتظار إصلاح تأخر…ونسق تحديث تكسّر…واستقرار تعسّر… واقتصاد تعثّر..

ستّ وستون سنة مضت، لنجد أنفسنا اليوم نبحث عن إعادة بناء دولة خربناها بأيدينا، ووحدة وطن قسمناه بأحقادنا، واستقرار ضاع منّا… وأمن وأمان افتقدناهما طويلا، عن توفير لقمة العيش لكل الشعب، عن الماء الصالح للشراب، عن السيولة في البنوك لخلاص أجور العملة والموظفين، عن الكهرباء التي أصبحت تنقطع عن بعض أجزاء البلاد يوميا، عن الغاز الذي يغيب عنّا العديد من المرّات في السنة، عن المئات من الأدوية التي غابت عن الصيدليات، عن أدوية الأمراض السرطانية التي اصبحت تباع في السوق السوداء، عن التعليم الذي يعاني خيارات من يسهرون على شؤونه، عن كتاب أصبح سعره يضاهي كيلوغرام من اللحم، عن سرير بمستشفى لمريض يعاني سكرات الموت، عن علبة حليب أصبحت تباع في السوق السوداء رغم بياض ما تحتويه، عن لتر من زيت “حاكمنا” اصبحنا نحلم به فنبتسم ونحن نياما، عن رطل من السكر نحلّي به أيامنا التي أصبحت في مرارة العلقم…وعن…وعن…عن بارقة أمل تشعرنا أن فلذات أكبادنا وأجيالنا القادمة ربما ستعيشون أفضل منّا…ربما يصبحون سادة ويعيشون بكرامة فوق أرضهم، وليس تحت طائلة الخوف…الخوف من المجهول…من قرار جائر…من شبهة أو تهمة قد تلصق بهم ظلما…من بطالة طالت وأصبحت مدى الحياة…من ميز سياسي شتّت عائلات بأكملها، وأبعد الوالد عن ولده…والأخ عن أخيه…من ظلم حاكم …واتباع حاكم…وزبانية حاكم…

أعود لأسأل، هل كنّا في حاجة إلى ايقاظ غول الحقد لنبني وطنا عادلا…وطن لا نجوع فيه ولا نُظلم؟ من أيقظ هذا الغول الذي أتى على ما تبقى من وطن أنهكه الانتقام وتصفية الحسابات والثأر من القديم؟ فالجميع ينتقم من الجميع…والجميع يطالب بثأر الجميع من الجميع…ألا يمكن أن نصلح حالنا بالتسامح…بالنسيان…بالمصالحة…؟ أين كان كل هذا الحقد وهذه الرغبة في الاقصاء والتفاخر بالانتقام والكراهية؟ هل فعلا نحن أولئك الذين كانوا يرتادون المسارح…ويرقصون في المهرجانات…ويضحكون ملء اشداقهم في الشوارع والساحات…ويسعدون صيفا بالأعراس والمناسبات…ويملؤون النزل والشواطئ في كل الجهات…ويدرسون في المدارس والمعاهد والجامعات…ولم يحملوا يوما سكينا أو موسى في جيوبهم ولم يرفعوا على بعضهم يوما الهراوات…؟

كيف تحولنا بين حدث، وحشود، وخطب وصراخ ومحاضرات ومسيرات، وبين استفتاء وانتخابات إلى وحوش مفترسة تسعد حين يتوجّع خصمها وترقص حين يسجن منافسها؟ إننا اليوم نعيش أحقاد وكراهية الجاهلية بكل صورها وتفاصيلها … لقد سقط القناع…نعم سقط القناع فنحن لسنا ذلك الشعب الذي قال عنه بيان السابع من نوفمبر ” إنّ شعبنا بلغ من الوعي والنضـج مـا يسمـح لكـلّ أبنائـه…” نحن لم نصل تلك الدرجة من الوعي التي استبشرنا بها لسنوات…ماذا فعلنا بأنفسنا…وبوطننا وبأجيالنا القادمة…ماذا سنترك لهم…بعد كل هذا الحقد…؟ من أيقظ غول الفتنة والحقد وأعاد الروح للكراهية؟ من أعاد تفاصيل قصّة قابيل وهابيل؟

مشكلتنا أن بعضنا اليوم يعتقد أن “لا قبله ولا بعده” في هذه الرقعة من الأرض، وأنه القادر على حلّ كل المشكلات التي تؤرقنا، لوحده وبعض من معه…نعم مشكلتنا ان بعضهم يعتقد جازما أن الحقد والإقصاء سيأتيان بالغيث النافع…وسيبعدان النحس عن بلادنا…وسيفجران الأرض نفطا وغازا… وسيخرجاننا مما نحن فيه… وسيقنعان صندوق النقد الدولي بفتح خزائنه لنا… وسيلعبان كالخمرة برؤوس اشقائنا ليغرقونا بالهبات والمساعدات والودائع…هؤلاء جميعا واقصد “بعضنا” لم يدركوا إلى يومنا هذا أنهم مجرّد كائنات تعيش خارج الواقع…يتأرجحون بين تاريخ لم يكونوا فيه ومنه ويحقدون عليه، وبين حاضر جعلوه حلبة صراع وانتقام ويفاخرون به…ومستقبل مجهول لا يأبهون كيف سيكون…

خلاصة الأمر، هل سنعيش يا ترى قصّة قابيل وهابيل إلى نهايتها، أم سيقول ساكن قرطاج “كفانا” ويدرك ولو بعد وجع، أن الطريق التي سلكها وأوهموه أنها الأفضل لن تصل بنا إلى برّ الأمان…وهل تتساقط أكباش الفداء ممن أثثوا المشهد منذ 25 جويلية وفشلوا في كل ما فعلوه وأتوه وهل ستعلن حكومة انقاذ وطني في قادم الايام…ونسلك معا دون استثناء ودون أحقاد طريق الخلاص…الخلاص الذي يريده الجميع دون استثناء…فلا أحد في هذه البلاد يحب لها الخراب…بعد كل هذا الخراب…ألم يحن الوقت لتصبح معاول الهدم معاول للبناء…للحياة؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version