جور نار

من بورقيبة إلى قيس سعيّد … هل كُتب علينا أن نُخطئ الضّربات التّرجيحيّة دائما ؟

نشرت

في

25 جويلية أحيَى 17 ديسمبر و 14 جانفي وما مثّلاه من صيحة قهر بلغ صداها أقصى أقاصي الكون. تاريخ أعاد أحلام جانفي 2011 وتطلعاته إلى واجهة الاهتمام الوطني وذلك بالنسبة إلى أغلب الفئات الاجتماعية التي لا تقتات من المُضاربة والأموال المُسترابة.

<strong>منصف الخميري<strong>

حَلُم الشقيّ بكونه سيطاله نصيب من خيرات بلده، والطالب بأن بطالته لن تؤبّد، والإعلامي بأن قلمه أو صوته لن يُصادر، والعاطل بأن الحظائر أدّت وظيفتها زمن القحط وولّى أمرها والصّناعي الكادح بأن مواصفات عالمية سيبلغها والسياحيّون بأن أسواقا جديدة سيقتحمونها… ولكن ظل الحلم حلما والطموح مجرّد جموح والتّوق إلى تونس أخرى أقل بؤسا وأكثر بهاءً مجرد تخمين أجوف كما الذي أتته المتنبئة اللبنانية المصرية ليلى عبد اللطيف والتي توقعت أن تونس ستصبح مثل دُبي.

كان بإمكان بورقيبة أن يكون أفضل. بورقيبة الذي مكّنته حِنكته السياسية وذكاءه الوقّاد وإيمانه القوي بأن تونس هذه مؤهّلة بموقعها وخيراتها وفولاذ أبنائها وبناتها وأنغامها وأهازيجها وتاريخها المنحوت في الحجر  لأن تصبح بلادا لتونسيين أفذاذا يحملون جوازا أخضرَ لا يخجلون من الاستظهار به أمام ديوانية العالم وشرطته. كما كان من المنتمين إلى جيل من النيّرين الذين لا تأسر نظرهم المطاعم الفاخرة والماركات الساحرة فظل تونسيا أصيلا يتحدّث كما نتحدّث ويأكل كما نأكل و”يتهنكر” كما “نتهنكر”…أو هكذا تقريبا.  لكن مع مرور السنوات، شاخت شكيمته وتغوّل في اعتقاده أنه الزعيم الواحد الأحد ووظّف الدولة لإغداق المشاريع الكبرى على جهات بعينها وبجّل المقربين وتفّه المعارضين…حتى جاءت اللحظة الترجيحية وصوّب خارج المرمى، مُضيّعا على تونس فرصة أن تكون عادلة وتعددية وأقوى اقتصاديا وأكثر مناعة ثقافية. وهن صحي وسياسي واقتصادي ألقى بعُتاة المؤسسة الأمنية إلى سطح السلطة وإحكام القبضة على كل ما يتحرك ومن يتحرك.

أما بن علي فكان بالإمكان أن يكون أفضل أيضا رغم سوء الطين الذي قُدّ منه.  كان لتونس خلال فترة حكمه العديد من نقاط القوة والتي تمثلت بالخصوص حسب اعتقادي في وعي مجتمعي عارم بانحرافات الفترة السابقة ومظالمها ووجود إدارة قوية ومتمرّسة ومُحكمة التنظيم ونسب نموّ واعدة وإطارات مؤهّلة جيدا بالآلاف ودورة اقتصادية نشيطة نسبيا… ولكن خنق الحريات بلغ حدّه الدموي الأقصى وتعاظم ما يسميه عزيز كريشان بالطغمة الريعيّة التي راكمت ثرواتها دون “أية ملكية مادية أو فكرية” حتى وقعت بلاد بأكملها بين مخالب زُمرة من الزعران والمنحرفين والكناطرية صنف 1 أي المستخدمين للطائرات والسفن وكل الذين استفادوا من عجز دولة جريحة أقعدتها نزوات الصبيان ومَكر مُخرّبات الأوطان.  وهكذا ضاعت على تونس مرة أخرى فرصة البناء على بعض المكتسبات وقطع الطريق أمام العملاء الذين كانوا يشحذون سكاكينهم في قندهار  ويُجهزون رصاص مسدساتهم على منابر الجزيرة.

المرزوقي المؤقت غير معني بالنسبة إلي بهذا الجرد لكونه مجرد مكلف بمأمورية بسيط لم يُنجز أكثر من الاستبسال في ترك الحدود مُشرعة أمام آلاف الإرهابيين ذهابا وإيابا والإذعان للمقايضة بإرضاء أناه غير السوية مقابل ترك حلفائه من الاخوان يسرحون ويمرحون في أدق مفاصل الدولة لتدجينها وتوظيفها بروح غنائمية منقطعة النظير.

الباجي قايد السبسي بدوره توفّرت أمامه فرصة ترجيحية تاريخية ولكنه صوّب خارج المرمى هو الآخر، إذ تنادى له مئات الآلاف من التونسيين في 2014 لأنهم كانوا مكتوين بنار ما فعلت بهم الترويكا خلال السنوات الأربع السابقة وبعد الاغتيالات السياسية الفظيعة والانقسام الحاد في المجتمع ومناخات العنف والإرهاب وقتامة الصورة التي باتت تميز تونس بكونها متصدرة لقائمة البلدان المصدرة لسواعد القتل والذبح… ولكنه فضّل الانحناء لمنطق التوافق الانتهازي المغشوش مقابل التستّر على تجاوزات عائلته وغنائمها، فأتى بشاهد الأعيان وسفيان خازن الجنان وعيّن طلبة التجمع والاخوان في كل مكان… مُضيّعا بذلك فرصة نادرة أخرى لنمرّ إلى خوض معاركنا المصيرية دون مكبّلات أو مُنغّصات.

جاء بعد ذلك قيس سعيّد، وبعد فترة من المراقبة المتأنية، قرّر أن يمر إلى السرعة الأعلى مُجمّدا برلمانا موتورا نكّد عيشنا وشتّت شملنا وأخضع نصف التونسيين إلى تناول مُضادّات الضّجر والاكتئاب، بل تحوّل أحيانا إلى ساحة مفتوحة للتآمر على أمن الدولة وبيع ما تبقى من سيادة وطنية. كما تمّ رفع الحصانة عن النوّاب وغيرهم وانطلقت سلسلة من المساءلات والإيقافات والمحاكمات.

نوايا الرئيس المتمركزة حول “تطهير البلاد من الفاسدين وعدم ترك أبناء الشعب لمن يتاجر بمعاناتهم وآلامهم وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء والتصدي لكل مظاهر الاحتكار والمضاربة، الخ…” يشاركه فيها كل الوطنيين الغيورين (من المواطنين العاديين إلى الآلاف من حاملي أوجاع هذا البلد على امتداد كل العهود الكلبة السابقة مُبدعين ومناضلين ومربين ودارسين واقتصاديين وديبلوماسيين وإداريين وخبراء في مجالات مختلفة… وهاذي بلاد تحبس أنفاسها (كما الجمهور الذي ينتظر تنفيذ ركلة جزاء حاسمة في الثواني الأخيرة لمباراة مصيرية) لترى تمشيات ميدانية تتسوّر الجملة الثورية لتُطلّ على معاول البناء القاعدي (بمعنى إعادة البناء من الأسفل أمام الانهيار المعمّم وليس اختيار البُناة بالقُرعة ووفق منطق من يقدر على التحشيد أكثر من غيره) من أجل أن تصبح لنا دولة تستحق اسمها وتذود عن كرامة شعبها شغلا وسَكنا وتعليما ونقلا وصحّة وصورة في العالم ورفاه.

فهل يحدث الاستثناء هذه المرة ؟ ذلك حُلُمي وانتظار الملايين.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version