تابعنا على

منبـ ... نار

من تجربة والٍ بعد الثورة

الأصل ليس إسكات أصوات الغضب، بل تلبية انتظارات الناس … و عند تعذّر ذلك، بناء ثقة متينة معهم … بالقليل المُتاح

نشرت

في

احتجاج أمام مقر ولاية

لم أكن متهيّئا مُطلقا لأن تقع دعوتي يوما إلى شغل هذه المناصب السياسية وأمثالها، لا فقط لأنني انتميت طوال حياتي إلى طيف سياسي تجنّد وناضل من أجل احتلال مواقع احتجاجية متقدمة بدلا من المواقع السلطوية المتهدّمة … بل وأيضا لأنني مازلت أعتبر أن كل خطة إدارية لا بدّ لها من ملمح خاص يستدعي تكوينا معيّنا وأدوات معلومة في التسيير و الحوكمة.

لكن حدث ما حدث في 2011 وتمّ الدفع بمجموعة من الأشخاص غير المحسوبين على النظام السابق، ويتوفرون افتراضيا على حدّ أدنى من المقبولية لدى عموم الناس، وخاصة لدى شارع مازالت حرارته مرتفعة وواقع آنذاك تحت سيطرة “قوى الاحتجاج التاريخية” (التي ستُسكت أصواتها الصادعة فيما بعد نتائج الصناديق المفخّخة) من نقابيين وحقوقيين ومناضلين من شتى أصقاع عالم الأنوار والأفكار.

moncef khemiri
<strong>منصف الخميري <strong>

كنت من بين هؤلاء وقبلت التحدّي بعد استشارة عدد كبير من أصدقائي الذين أجمعوا على ضرورة خوض غمار التجربة رغم إكراهاتها  و حساسية الظرف المهيمن مباشرة بعد جانفي 2011.

لم أعمّر أكثر من أسبوع في قابس على خلفية سوء تفاهم مع وزير سابق رحمه الله لن أخوض هنا في تفاصيله نظرا للتقدير الرمزي الكبير الذي يحظى به هذا الأخير في قلبي رغم كل ما جدّ بيننا… ثمّ التحقت بولاية سليانة لتعترضني أول عملية إرهابية مسلحة في 18 ماي 2011 في قلب مدينة الروحية واستشهاد الملازم الطاهر العياري والعريف أول وليد الحاجي رحمهما الله.

لماذا أعود إلى هذه التجربة ؟

أعود إليها لأتناولها لأول مرة ومن زاوية ما تجلّى منها من حقائق ودروس قد تتوفر على بقايا صلوحية استعمال لفائدة البلد والقائمين على حظوظ تعزيز مناعته وتحسين شروط إمكان السعادة فيه.

أولا :

بالرغم من موقعها المركزي جغرافيا واقتصاديا وتاريخيا، ظلت ولاية سليانة تحبس أنفاسها بعد “جلاء آخر جندي فرنسي”، منتظرة حلول أول مشروع وطني تونسي يُقلّم أظافر الفقر ويُثمّن تراثا عالميا نادرا ويُوظّف العصور الجيولوجية السحيقة التي توفرت عليها عين الذهب بجبل السرج …فما راعهم إلا والوافد الوحيد والأوحد كان مشروعا ألمانيّا تمثل في معمل لصناعة الكابل “دراكسماير” يُشغّل حوالي 3000 عاملة وعامل… وما عدا ذلك لا أثر للاستقلال والدولة الوطنية ولا لدولة الثورة المباركة.

قلت رغم ذلك المنسوب الخُرافي من اللاّ وطن و اللا إستقلال و اللا رفاه… وجدت أناسا طيّبين وهادئين ويُعوّلون على أنفسهم و على ما تزخر به أراضيهم من عذب مياه و تفاح و فاكهة سريز و رخام و زيتون و قوت… لكنه هدوء كان يُخيفني أحيانا لأنه يليق أكثر ببعض الجهات المترفهة التي لا تخترقها أسباب العواصف والأعاصير.

ثانيا :

في تلك الفترة ورغم حضور البدلات العسكرية داخل أروقة المؤسسات السيادية تشعر بأنك أعزل تماما من شرطين أساسيين للحكم وهما الإمكانيات التنموية الحقيقية الموضوعة على ذمّة السلطة الجهوية (أي إجابات ملموسة ومباشرة على مختلف المشاكل التي اصبحت معلومة لدى أجهزة الدولة منذ عقود) من ناحية، وشيئا من “القدرة الإقناعية للدولة” على معنى ترميم الصورة المُهشّمة لدولة الاستقلال التي سقطت كل أوراق التوت عن عورتها وعلى جميع ممثّليها وحاملي ألويتها من ناحية أخرى.

فهذا نظام سقط ولكن يعسر جدا في ذات الوقت أن يولد نظام جديد على أنقاضه الآن بصفة مباشرة ويكون مؤسّسا على قيم العدل والحرية وكرامة العيش والوطن.

لذلك بالذات كان لأداء الأفراد (باعتبارهم ذواتا أكثر منهم ممثلين رسميين لسلطة مركزية) دور مركزي في إدارة الأزمات والتعامل مع الانفجارات الاجتماعية التي تحدث هنا وهناك والتصرف مع حشود المواطنين الذين يتوجب عليك مقابلتهم يوميا.

ثالثا :

وفي علاقة بملمح الأفراد، أقرّ بأن الأصل ليس في إسكات أصوات الغضب أو تأجيل انفجارها بل هو في تلبية انتظارات الناس وإيجاد حلول حقيقية لمشاكلهم. ولكن في غياب ذلك، قدرُك أن تبني علاقات ثقة متينة بالقليل المُتاح وتُثبت أنه لا وجود فعلي لــ “صندوق أسود” يتحوّز عليه والي الجهة وليست الإجراءات الإدارية الثقيلة هي ما يحول دون تنفيذ مشاريع لفائدة المواطنين، بل غياب المشاريع ذاتها … وعليك أن تتسلّح بكل ما أوتيت من حنكة و فطنة لتفلت من عُقال الابتزاز بأنواعه ما لان منه وما تصلّب … وعليك خاصة أن تكون “يسير المنال” يمكن الاتصال بك والتحدث إليك هاتفيا أو بصفة مباشرة في كل آن وحين.

فعلى سبيل الطرفة، كان عديدهم لا يصدق أنك تطلب أرقاما بعد التوقيت الإداري تركها أصحابها لدى الكتابة (لأنك لم تكن بمكتبك بعد الظهر) للاستفسار عن موضوع زيارتهم … فيردون عليك باستعلاء تونسي أصيل “برّة يعيش ولدي ضيّع وقتك في حاجة أخرى، فمّا والي هو يطلب مواطنين العاشرة ليلا ؟” فأجيبه “هاو عندك رقم مباشر، غدوة ثبّتو  في عقلك وتصبح على خير”.

هي بعض الجوانب الاتصالية الحافّة لكنها تساهم في تأسيس مناخ من الثقة الذي يسهّل التواصل مع الناس وامتصاص نسبة هامة من غضبهم وحنقهم على سلطة احتقرتهم على امتداد نصف قرن … و لم تواجه توقهم إلى بعض الكرامة إلا بالمراوغة و التسويف وبعض الجرعات الأمنية نافذة المفعول.

رابعا :

من الظواهر التي تلمسها بشكل جلي وأنت تستقبل مئات المواطنين يوميا، أن بعضهم يأتي فقط ليسجّل في سيرته الذاتية أنه التقى بوالي الجهة  و قال له بصوت عال إن الأمر لم يعد يطاق وأن اتصاله يعتبر تحذيرا أول قبل اتخاذ خطوات تصعيدية أخرى… و البعض الآخر (بصفة موازية تماما لحاملي الشهائد الجامعية العليا المعطلين عن العمل)، يجلس أمامك بكل ثقة في النفس ويدفع إليك بشهادة سراح من السجن بنية التأثير عليك وإقناعك بأن 2011 أسّس بشكل من الأشكال نوعا من “الشرعية السجنيّة” القابلة للاستثمار … و بعض آخر من الذين فاجأتهم الثورة و لم يتمثّلوا أنها حاملة لقيم جديدة تقطع مع ما كان سائدا قبلها فراحوا يطالبون بإعادة إنتاج نفس السلوكات غير السويّة من قبيل “خدّمت أولادي الكل، مازال كان وحيّد برك” … أو “ثمة قطعة أرض هي تابعة الدولة لا محالة، ما ثماش زعمة طريقة كيفاش نتوسع فيها؟ العايلة كبرت، ونزيد نصونها ونحفظها” …  أو كذلك “ياخي اعلاش عملنا ثورة كان ولدي ما ينجحش بـــ 8 على عشرين ؟” … وأختم هذا الركن بظاهرة شدّت انتباهي خلال تلك الفترة وتتمثل في عقلية “محاضر الجلسات” كدليل إدانة للمسؤول المعني، حيث كان عديد المواطنين يعتبرون أن مجرّد عقد جلسة حوارية وتدوين محضر جلسة يلخّص ما تمّ التداول بشأنه (حتى وإن لم تحصل اتفاقات صريحة)، هو حجّة كافية لإثبات الحق وإقرار الموافقة على المطالب المطروحة.

خامسا وأخيرا :

لو كان لي أن أعطي هذه النقطة الخامسة عنوانا لأسميتها “كاموريات”. ..لأنها متعلقة بكيفية مواجهة التجاوزات القصوى التي ترافق أحيانا بعض الاحتجاجات الشعبية المشروعة … و التي عادة ما يحدث -عندما يطول أمدها- أن يتم اختراقها فيتسرب لها المنحرفون والنهّابون وقطاع الطرق وأصحاب المشاريع المشبوهة.

ظاهرة قطع الطرقات على سبيل المثال استفحلت بعد 2011 في كل الجهات بدون استثناء … و هي شكل احتجاجي يمكن تفهّمه لأن المواطن يدرك جيدا أنه في ظل الانفجار المجتمعي العام، لا يتيسّر لسلطة مرتبكة مازالت تبحث عن توازنها أن تنتبه لمشكل تزود بالماء الصالح للشراب في قرية نائية لا يعرف مسالكها المتشعبة إلا الشيخ غوغل والحرس الوطني.

لكن عندما يكون الاحتجاج مشروعا و للسلطة الجهوية بعض المصداقية، كنت شخصيا أرفض التحول إلى موقع الاحتجاج طالما ظلت الطريق مغلقة … و غالبا ما نجحت في إقناع المحتجين بإخلاء الطريق العام و الابتعاد بعض الأمتار فقط فينطلق حوار بيننا يدوم بعض الدقائق أو بعض الساعات قبل التوصل إلى حلول ترضي الناس و تقدر السلطة على تنفيذها.

وثمة في العادة 3 أنواع من الحلول بحضور المسؤولين الجهويين عن كل مرفق (حسب طبيعة المشكل المتسبب في اندلاع الاحتجاج) :

1) مشاكل تستطيع السلطة حلّها في اليوم نفسه بشيء من الإرادة و التعسف غير الضار على الإجراءات الاعتيادية

2) مشاكل يتطلب حلها بعض الوقت  (لكن تتعهد السلطة بالرجوع الى نفس الموقع ومعاينة تقدم الأشغال في الآجال المتفق عليها).

3) مشاكل غير قابلة للحل في الإبان لكونها تتطلب إمكانيات ضخمة وتخطيطا مركزيا لكن على السلطة الجهوية أن “تضغط وتستبسل” في اقتلاع الموافقات الضرورية من الوزارات المعنية على تنفيذ بعض المشاريع ذات الطابع الاستعجالي.

مُقاربة ناجعة في اعتقادي لما يقتنع بها المواطن والمسؤول على حد السواء قد تشكل أرضية تعامل تقي مستعملي الطريق العام وجميع المستفيدين من ماكينة الإنتاج الوطني ومن مرافق الخدمات العامة… تقيهم ما ينجر عن الاحتجاجات السالبة للحرية والسيادة من إزعاجات وإرباكات مختلفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إطار تربوي، و وال بعد الثورة و قبل أحداث الرشّ (توضيح لا بدّ منه).

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    منبـ ... نار

    مفارقات تونسية… إلى متى يُؤجّل قرار إلغاء امتحان “الباك سبور”؟

    نشرت

    في

    رئاسة الحكومة تتخّذ إجراءات ردعية بخصوص الشعارات الإرهابية والعنصرية في  "دخلات الباك سبور"

    تعيش تونس هذه الأيام، وخلال كامل الفترة من 15  إلى 27 أفريل 2024، على وقع ما يُسمّى بالباك سبور، ونغتنم فرصة الاهتمام العام بهذا الموضوع ومواكبته من قبل العائلات التونسية ووسائل الإعلام المختلفة،  لنقدم ملاحظاتنا ومقترحنا حوله،  لعلنا نساهم بذلك، في فتح النقاش العام حول الإشكاليات المطروحة، يحدونا الأمل في التعجيل باتخاذ القرار الرسمي الملائم، الذي طال انتظاره وهو إلغاء “اختبار آخر السنة في التربية البدنية والاقتصار على نتائج التقييم المستمر أثناء السنة الدراسية”.

    <strong>د مصطفى الشيخ الزوّالي<strong>

    ويتضمن هذا المقال تذكيرا بنماذج من الآراء والمعطيات الموضوعية المتداولة في الدراسات التربوية والتقارير الرسمية، والتي من المفروض أو  تُقنع الرأي العام  والمسؤولين بضرورة التعجيل بالقرار المقترح وبغيره من القرارات، ولكن، وفي سياق “انحلال الروابط الصلبة”، كإحدى السمات المميزة لحياتنا المعاصرة في “زمن السيولة”، كما يعرفه عالم الاجتماع الشهير زيغموند باومن، يتواصل التأجيل لهذا الأمر، كما يتواصل الـتأجيل لقرارات أخرى، لا تقل أهمية، قد تناولنا بعضها في دراسات علمية وتقارير رسمية أو  مقالات رأي حول “مفارقات تونسية” أخرى.[1]

    أولا: نبدأ بالتذكير  بما حصل  سنة 2010 ،( في زمن “الصلابة” الرسمية التونسية)، فقد صدر  قرار إلغاء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة وجاء ذلك بناء على تقرير من وزارة التربية والجهات الأمنيّة، حيث اتّخذ مجلس الوزراء يوم 20 أوت 2010 قرار إلغاء اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة: “حفاظا على سلامة التلاميذ والتوقّي من السلوك غير الحضاريّ، داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها.  وقد برّرت الوزارة هذا القرار-كما جاء على لسان وزير التربية آنذاك- بثلاثة أسباب، هي:

    1. ارتفاع تكلفة الامتحان (3 ملايين دينار): ويحسن تخصيصُ هذه الأموال لتهيئة الملاعب واقتناء التجهيزات الرياضيّة.
    2. سبب بيداغوجيّ يتمثل في كون الأعداد المتحصّل عليها في اختبار آخر السّنة هي دون معدّلات المراقبة المستمرّة،
    3. سبب وقائيّ وأمنيّ، بعد تفاقم ظاهرة السّلوك المخلّ داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها، بمناسبة تنظيم اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة.

    ولئن استبشر عدد كبير من الأولياء ومديري المؤسّسات التربويّة بهذا القرار، فقد لاقى نقدا ورفضا من قبل نقابات التعليم ومدرّسي التربية البدنيّة الذين رأوا في القرار تهميشا لمادة التربية البدنيّة.

    لاحقا، وفي سياق ما يمكن تسميته بالنتائج  المنحرفة” أو “غير المأمولة” لثورة 17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011، صدر سنة  2012، “قرار عودة اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة” دون معالجة الإشكاليات التي أدّت إلى إلغاء هذا الاختبار.

    للتذكير أيضا، فقد تم خلال دورتي 2020 و2021، إلغاء الباك السبور واحتساب المعدل السنوي للتربية البدنية كعدد نهائي في امتحان الباكالوريا في كافة المعاهد العمومية والخاصة، وذلك بسبب الحجر الصحي وأزمة الكوفيد19.

    ثانيا: حول انعكاسات امتحان “الباك  سبور” على التنظيم البيداغوجي والحياة المدرسية [2]

    1. توقف دروس التربية البدنيّة منذ منتصف شهر أفريل ، بسبب تجنيد جميع مدرّسي المادّة في لجان الامتحان .
    2. تعدد التجاوزات ومظاهر الإخلال أثناء سير الامتحان والسّعي إلى التحيّل على التراتيب، فترى عددا من المترشّحين الذين ضمنوا معدّلات سنويّة في التربية البدنيّة مرتفعة يقومون بتقديم وثائق تعفيهم من اختبار آخر السنة، وصنفا آخر اختار الإعفاء من دروس التربية البدنية طيلة السّنة الدّراسيّة ولكنّه يريد المشاركة في اختبار آخر السّنة لجني بعض النقاط التي قد تكون ثمينة عند احتساب العدد النّهائي.

    ثالثا: حول العادات والطقوس التي انتشرت قبل إجراء الاختبار وبعده:

     ويتمثل ذلك في إقامة نوع من الحفلات والاستعراضات أمام المعاهد وفي الشّوارع، تعطل حركة المرور وتتحوّل في عديد المرات إلى  مآس وحوادث مرور خطرة. وفي ما يلي فقرات واردة في وسائل إعلام مختلفة وبمواقع الكترونية تناولت هذا الموضوع ، وهي تؤكد وجود شبه إجماع على خطورة الظاهرة في المجتمع التونسي:

    1.      ” احتفالات بها بكثير من الصخب وتتوجّس منه إدارات المؤسّسات والسّلط الجهويّة والمحليّة لما يرافق احتفالات التلاميذ به من تجاوزات خطرة…” 
    2. ” أسوأ هذه العادات هي (الكُورتيج) :“استعراض السيارات”حيث يخرج التلاميذ في استعراض بالسيارات يجوبون وسط المدينة  و شوارعها إضافة إلى الألعاب النارية و الشماريخ، عادتان تأتيان في المرتبة الثانية للائحة العادات السيئة حيث يعمد عديد التلاميذ إلى الاحتفال بالـ”فلام”و الألعاب النارية …”
    3. دخلة الباك سبور …وفاة تلميذ باكالوريا بعد سقوطه من نافذة السيارة خلال احتفاله مع أصدقائه…”
    4. “الآن وقد تمّ تسجيل وفاة التلميذ ( والتلميذة)… على إثر حادثي مرور خلال احتفاليات (الدخلة) الملعونة في الباك سبور…متى يتمّ التدخّل ومنع هذه الظاهرة الخطيرة.”

    رابعا: انتشار الدروس الخصوصية في “الباك سبور” وتحوّلها إلى “عنوان فساد”

    لاحظنا في السنوات الأخيرة، استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية في “الباك سبور”، وذلك رغم غلاء أسعارها، فقد صرّح وزير التربية بتاريخ 16 أفريل 2019 ، أنّ”5  أيام دروسا خصوصية في (الباك سبور) بـ700 دينار” [3].  كما صرّح الوزير نفسه، بتاريخ 21 ماي 2019، أن :  “باكالوريا الرياضة في شكلها الحالي هي عنوان الفساد وهي  لا تحمل أي معنى …. من موقعي كوزير للتربية …. لا أسمح لنفسي بمباركة أشياء أعرف جيدا أنها غير مقبولة وغير معقولة . فهل يعقل مثلا أن يتحصل 99 بالمائة من التلاميذ في الباكالوريا رياضة على أعداد فوق 18 من عشرين، هناك تضخيم غير مقبول للأعداد التي تسند للتلاميذ على خلفية الدروس الخصوصية في الرياضة، ولو كانت هذه الأعداد تسند لها ميداليات ذهبية لكانت تونس بطلة العالم في الرياضة…”[4]

    يبدو جليا  من خلال هذين التصريحين، أن الوزير قد كان يؤسس لحملة إعلامية، تمهيدا لاتخاذ قرار إلغاء “الباك سبور”، ولكن بعد أقل من سنة، تغيرت الحكومة وتغير وزير التربية، وتأجل اتخاذ القرار المذكور . ويبدو أن السبب الأساسي وراء التأجيل المستمر لاتخاذ  هذا القرار وعديد القرارات التي يحتاجها قطاع التربية في تونس منذ أكثر من عقد من الزمن، هو  عدم الاستقرار الحكومي وتعاقب أكثر من 10 وزراء على قطاع التربية منذ  2011.

    خامسا:  “دخلة الباك سبور”

    لا يفوتنا، في خاتمة هذا المقال، أن نُذكّر بنقطة إيجابية في “الباك سبور”، قد تدفع البعض إلى الدفاع عن استمرار هذا النوع من الامتحانات ونعني بذلك ما يمكن تسميته بـ”قصص النجاح في دخلة الباك سبور” والتي أكد  من خلالها التلاميذ في عديد الحالات، قدراتهم الإبداعية وتميزهم في التعبير عن حاجياتهم الأساسية وقيمهم الإنسانية أو احتجاجاتهم ومطالبتهم بحقوقهم. ومن المواضيع التي لاقت استحسان التونسيين وراجت في الاعلام: “تكريم الأساتذة والأولياء“،  “التحسيس ضد كورونا”، وآخرها الحضور البارز للقضية الفلسطينية في “باك سبور” 2024.

    لضمان المحافظة على هذه النقطة الإيجابية، يمكن التفكير في تطوير  فكرة “دخلة الباك سبور”، دون إجراء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة، وذلكعبر اعتماد صيغة مشاريع عروض فنية ورياضية وثقافية، تُطبّق فيها بيداغوجيا المشروع، حيثيمكن الاستفادة من دروس فشل تجارب سابقة للوزارة في هذا المجال. نعني بذلك تجربة “التعلمات الاختيارية” (2003- 2006)  أو “”مادة إنجاز مشروع” (2006-2015) [5]. واستنادا للوثيقة الرسمية للتجديدين المذكورين، يمكن أن تتكون مجموعات من التلاميذ، تنطلق في تصور مشروع “دخلة الباك” وإعداده وتنفيذه،  بداية من السنة الدراسية للسنة الرابعة ثانوي، أو انطلاقا من السنة الثالثة ثانوي . يؤطر المشاريع مجموعة من المربين من اختصاصات مختلفة كالتربية البدنية والموسيقى والمسرح وغيرها، وبالتعاون والدعم من أطراف أخرى من العائلات والمحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمؤسسة التربوية كدُور الشباب أو الثقافة أو مؤسسات أخرى ( طبعا في سياق مشروع المؤسسة التربوية وتطبيق القانون المنظم له منذ 2004، وهو الأمر المنظم للحياة المدرسية، أو ربما القانون الذي ننتظر أن يعوّضه) يمكن كذلك أن تُرصد جوائز جهوية ووطنية لأحسن العروض التي يتم تقديمها في الاحتفالات المدرسية لآخر السنة إلخ إلخ…


    هوامش:

    [1] مثال ذلك دفاعنا عن قرار إلغاء الاعداديات والمعاهد النموذجية ، في مقالين منشورين بجلنار  وهي  “مفارقات تونسية ( 2)(28 أفريل 2022) و”مفارقات تونسية” (3) بتاريخ 22 جوان 2022

    [2]  معطيات هذا العنصر والعنصر السابق مستخلصة، أساسا، من دراسة حول “الباك سبور” منشورة بموقع “المدونة البيداغوجية” بتاريخ 26 أفريل2015.

    [3]  https://www.guideparents.tn/article

    [4] https://ar.espacemanager.com

    [5]  تناولنا  هذا الموضوع  في  كتابنا ” المدرسون والتجديد” ويمكن الاطلاع على تقديم الكتاب من الصديق منصف الخميري بالمدونة البيداغوجية  بتاريخ 6 مارس 2022 وكذلك على الفصل الأول من الكتاب بنفس المدونة  في 4 تواريخ متتالية بداية من 29 جانفي 2023

    أكمل القراءة

    منبـ ... نار

    تكريما لروحك يا “جاد”… أعلِنُك رئيسا رمزيا

    نشرت

    في

    Ouvrir la photo

    توفيق العيادي:

    كان جاد نصيرا للمرضى والعجّز والفقراء ولم يطلب يوْما نصرتهم لكسْب أو منصب أو مغنمٍ له، وقد هبّ الناس لتوديعه لأنهم أحسّوا فعلا بعظيم خسارتهم في موته.

    Ouvrir la photo
    توفيق العيادي

    لم أعرف جاد الهنشيري إلا عن طريق الصدفة ومن خلال برامج تلفزية دُعِيَ لها ضيفا كممثل للأطباء الشبان، ولم ألتقه مطلقا، فقط استمعت إليه أكثر من مرّة وهو يُلقي بهمّه الذي هو همّ الفقراء على مسامع التونسيات والتونسيين، ويقطفُ من روحه أمَلاً يُرسِله لهم جميعا درْءً لأحزانهم التي فاقت كل معايير القيس وأدوات الأكيال والأوزان، وثـقُـل عليْهم حِمْلُ الهموم التي ناءتْ بها الأعناق، والمرارة على محيّا جادٍ بادية لا تُخطئها العين ويتدفّق الصدّق من بين موجات صوته المَغْصوص كَغُصَصِ كل الشباب الحالم على هذه الأرض، ولا تخلو غصّة جاد من معنىً يؤطّره مبدأ أساسيّ يشُدّ الحلم وينير الطريق ويُحفّز على المسير وتجشّم الصّعاب، مبدأ فحواه أنه : ” بمقدورنا أن نكون أفضل .. يجب أن نكون أفضل”، رغم الاستهجان والاعتراف بحجم الفساد الذي نخر معظم القطاعات والفئات في هذا الوطن.

    لكَمْ نحن في حاجة ماسّة إلى شابّ جادٍّ كما “جاد” يتوهّج عزما وحبا وصدقا، ولسنا في حاجة إلى “عـتْـڤـة” قديمة كما بعض من فاق السبعين وغنِم من العهديْن ويريد اليوْم أن يستزيد … مات “جاد” رحمه الله وأغدق على أهله وصحبه الكثير من الصبر والسّلوى. لكنّ القِيَم التي حملها جادّ وحلُم بها وحمّلها لمنْ بعْدِه من الصّحْب والرّفقة، لا تزال قائمة، فأمثال جاد من الشباب الأوفياء والخلّص للوطن بكل مكوّناته سيّما البسطاء منهم، موجودون بالعشرات، بل بالآلاف وفي كل ربوعه، وما على الوطن إلاّ أن يَجِدّ في طلبهم والبحث عنهم وأن يُصدّرهم مواقع الريادة والقرار ،وإن حَجَبَهُمْ عنّا تعفّـفهم،

    إذا كنا نريد فعلا المضيّ في الطريق المفضي إلى المشروع الحرّ وجبَ أن نغادر خصومات كسب العواطف واِستمالة الأهواء ونعراتِ التحامق، ونمضي في تسابق نحو كسب العقول وتهذيبها وتنظيفها من كل الشوائب العالقة بها لعهود .. ولذلك أقول للمشتغلين بالسياسة والمتكالبين على استدرار الشعب لتدبير شأنه العام والاستحكام برقابه، إن السياسيّ الناجح هو الذي يُبينُ للناس ما فيه من فضائل وما هو عليه من إقتدار وليس نجاح السياسي رهين عرض نقائص الخصم والتشنيع عليه وتعظيم مساوئه وإن كان له فيها نفع.

    ونذكّر السياسي أيضا أن الجدارة بالحكم لا تتوقّف عند حدّ الفوز بالتفويض من الإرادة الشعبيّة عامة كانت أو مطلقة، كما أن النوايا الطيّبة لا تكفي لمزاولة السلطة، بل يبقى صاحب السلطة في حاجة إلى تأكيد شرعيّته بحسن إدارة الحكم الذي ينعكس وجوبا على أحوال الناس، وهذا لا يتمّ لهم بواحدٍ بل بكثيرين ومن أمثال “جاد الهنشيري” تضحية وصدقا ومروءة …

    رحل جاد وبقي أثره فينا، وتكريما لروحك يا “جاد” واِنحيازا لكلّ قيَمِ الجدارة والصدق والإنسانيّة والجدوى، والتي مثّلتها باقتدار، أعْـلِنُـكَ “رئيسا” رمزيّا وشرفيّا بالغياب لهذا الوطن الحزين … ليطمئن السياسيون، فـ”جاد” لن ينهض من غيبته الأبديّة، وستكون قيمه تقضّ مضاجعكم كلّما اجتمعت لشخصٍ خشية أن يُبعثر حسابات الرّبح مِمّا تمِزّون من دماء الوطن.

    أكمل القراءة

    منبـ ... نار

    هل تتخلص تونس من مكبلات صندوق النقد الدولي و تبحث عن مصادر بديلة؟ (2)

    نشرت

    في

    Compétitivité des exportations en Afrique La Tunisie classée 2 ème Tunisie

    عرفت تونس أزمات اقتصادية ومالية متفاقمة بعيد ثورة 14 جانفي، وتتالت هذه الأزمات و امتدت آثارها السلبية الى اليوم رغم القطع مع المنظومة البائدة إثر حراك 25 جويلية.

    <strong>فتحي الجميعي<strong>

    إلا أن الانتهازيين و أصحاب المصالح والسابحين عكس تيار النهوض بالبلاد عطلوا عملية الإصلاح وعملوا على إفشالها وذلك بكل السبل، فبقيت تونس رهينة الديون المتراكمة والمجَدْولة، وسياسات الجذب الى الخلف كالتهريب والمضاربة وتبييض الأموال. غير أن الإرادة الصادقة، والإيمان القوي بضرورة تغيير حال البلاد إلى الأفضل جعلها لا تنحني إلى الابتزازات، ولا تخضع للشروط.

    فرغم توصلها في أكتوبر 2022 الى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي تحصل بموجبه على تمويل بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن الاتفاق النهائي تعثر تحت طائلة الشروط القاسية كرفع الدعم، خفض الأجور و بيع مؤسسات عامة متعثرة. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل تم وضع تونس ضمن القائمة السلبية لأول مرة من قبل هذا الصندوق، الأمر الذي صعب على بلادنا النفاذ الى الأسواق المالية العالمية.

    وتفاديا للوقوع في صدمات اجتماعية واقتصادية، نجحت تونس بفضل تطور صادراتها، وعائدات السياحة، وتحويلات التونسيين بالخارج، وتنويع شركائها التجاريين إضافة إلى اعتمادها على الاقتراض الداخلي، والاكتتابات المتتالية لدى بورصة تونس، وانخراط التونسيين في هذه العملية، وهو نوع من الوعي الوطني والدفاع عن حرمة تونس، و نتيجة لذلك تحقق توازن مالي لدى البلاد هذا من ناحية، و من ناحية أخرى أعطت درسا لصندوق النقد الدولي بإمكانية التخلي عن خدماته عند الاقتضاء وخاصة عند المساس بأمنها القومي.

    ورغم أن الفضاء الطبيعي  لتونس هو الفضاء الإفريقي والعربي والأوروبي باعتبار أن ثلثي المبادلات التجارية معه، إلا أنها عبرت عن انفتاحها على كل الفرص التي تمكن من تسريع وتطوير مناخ الأعمال ونسق النمو في اشارة إلى مجموعة “البريكس”.

    إن تونس  مازالت منفتحة على الحوار مع صندوق النقد الدولي لكن دون إملاءات أو شروط تهدد السلم الاجتماعي. وإن تعذر ذلك فتونس مستعدة للانضمام الى بريكس للحصول على التمويلات اللازمة.

    أكمل القراءة

    صن نار