الأصل ليس إسكات أصوات الغضب، بل تلبية انتظارات الناس … و عند تعذّر ذلك، بناء ثقة متينة معهم … بالقليل المُتاح
نشرت
قبل 4 سنوات
في
لم أكن متهيّئا مُطلقا لأن تقع دعوتي يوما إلى شغل هذه المناصب السياسية وأمثالها، لا فقط لأنني انتميت طوال حياتي إلى طيف سياسي تجنّد وناضل من أجل احتلال مواقع احتجاجية متقدمة بدلا من المواقع السلطوية المتهدّمة … بل وأيضا لأنني مازلت أعتبر أن كل خطة إدارية لا بدّ لها من ملمح خاص يستدعي تكوينا معيّنا وأدوات معلومة في التسيير و الحوكمة.
لكن حدث ما حدث في 2011 وتمّ الدفع بمجموعة من الأشخاص غير المحسوبين على النظام السابق، ويتوفرون افتراضيا على حدّ أدنى من المقبولية لدى عموم الناس، وخاصة لدى شارع مازالت حرارته مرتفعة وواقع آنذاك تحت سيطرة “قوى الاحتجاج التاريخية” (التي ستُسكت أصواتها الصادعة فيما بعد نتائج الصناديق المفخّخة) من نقابيين وحقوقيين ومناضلين من شتى أصقاع عالم الأنوار والأفكار.
كنت من بين هؤلاء وقبلت التحدّي بعد استشارة عدد كبير من أصدقائي الذين أجمعوا على ضرورة خوض غمار التجربة رغم إكراهاتها و حساسية الظرف المهيمن مباشرة بعد جانفي 2011.
لم أعمّر أكثر من أسبوع في قابس على خلفية سوء تفاهم مع وزير سابق رحمه الله لن أخوض هنا في تفاصيله نظرا للتقدير الرمزي الكبير الذي يحظى به هذا الأخير في قلبي رغم كل ما جدّ بيننا… ثمّ التحقت بولاية سليانة لتعترضني أول عملية إرهابية مسلحة في 18 ماي 2011 في قلب مدينة الروحية واستشهاد الملازم الطاهر العياري والعريف أول وليد الحاجي رحمهما الله.
لماذا أعود إلى هذه التجربة ؟
أعود إليها لأتناولها لأول مرة ومن زاوية ما تجلّى منها من حقائق ودروس قد تتوفر على بقايا صلوحية استعمال لفائدة البلد والقائمين على حظوظ تعزيز مناعته وتحسين شروط إمكان السعادة فيه.
أولا :
بالرغم من موقعها المركزي جغرافيا واقتصاديا وتاريخيا، ظلت ولاية سليانة تحبس أنفاسها بعد “جلاء آخر جندي فرنسي”، منتظرة حلول أول مشروع وطني تونسي يُقلّم أظافر الفقر ويُثمّن تراثا عالميا نادرا ويُوظّف العصور الجيولوجية السحيقة التي توفرت عليها عين الذهب بجبل السرج …فما راعهم إلا والوافد الوحيد والأوحد كان مشروعا ألمانيّا تمثل في معمل لصناعة الكابل “دراكسماير” يُشغّل حوالي 3000 عاملة وعامل… وما عدا ذلك لا أثر للاستقلال والدولة الوطنية ولا لدولة الثورة المباركة.
قلت رغم ذلك المنسوب الخُرافي من اللاّ وطن و اللا إستقلال و اللا رفاه… وجدت أناسا طيّبين وهادئين ويُعوّلون على أنفسهم و على ما تزخر به أراضيهم من عذب مياه و تفاح و فاكهة سريز و رخام و زيتون و قوت… لكنه هدوء كان يُخيفني أحيانا لأنه يليق أكثر ببعض الجهات المترفهة التي لا تخترقها أسباب العواصف والأعاصير.
ثانيا :
في تلك الفترة ورغم حضور البدلات العسكرية داخل أروقة المؤسسات السيادية تشعر بأنك أعزل تماما من شرطين أساسيين للحكم وهما الإمكانيات التنموية الحقيقية الموضوعة على ذمّة السلطة الجهوية (أي إجابات ملموسة ومباشرة على مختلف المشاكل التي اصبحت معلومة لدى أجهزة الدولة منذ عقود) من ناحية، وشيئا من “القدرة الإقناعية للدولة” على معنى ترميم الصورة المُهشّمة لدولة الاستقلال التي سقطت كل أوراق التوت عن عورتها وعلى جميع ممثّليها وحاملي ألويتها من ناحية أخرى.
فهذا نظام سقط ولكن يعسر جدا في ذات الوقت أن يولد نظام جديد على أنقاضه الآن بصفة مباشرة ويكون مؤسّسا على قيم العدل والحرية وكرامة العيش والوطن.
لذلك بالذات كان لأداء الأفراد (باعتبارهم ذواتا أكثر منهم ممثلين رسميين لسلطة مركزية) دور مركزي في إدارة الأزمات والتعامل مع الانفجارات الاجتماعية التي تحدث هنا وهناك والتصرف مع حشود المواطنين الذين يتوجب عليك مقابلتهم يوميا.
ثالثا :
وفي علاقة بملمح الأفراد، أقرّ بأن الأصل ليس في إسكات أصوات الغضب أو تأجيل انفجارها بل هو في تلبية انتظارات الناس وإيجاد حلول حقيقية لمشاكلهم. ولكن في غياب ذلك، قدرُك أن تبني علاقات ثقة متينة بالقليل المُتاح وتُثبت أنه لا وجود فعلي لــ “صندوق أسود” يتحوّز عليه والي الجهة وليست الإجراءات الإدارية الثقيلة هي ما يحول دون تنفيذ مشاريع لفائدة المواطنين، بل غياب المشاريع ذاتها … وعليك أن تتسلّح بكل ما أوتيت من حنكة و فطنة لتفلت من عُقال الابتزاز بأنواعه ما لان منه وما تصلّب … وعليك خاصة أن تكون “يسير المنال” يمكن الاتصال بك والتحدث إليك هاتفيا أو بصفة مباشرة في كل آن وحين.
فعلى سبيل الطرفة، كان عديدهم لا يصدق أنك تطلب أرقاما بعد التوقيت الإداري تركها أصحابها لدى الكتابة (لأنك لم تكن بمكتبك بعد الظهر) للاستفسار عن موضوع زيارتهم … فيردون عليك باستعلاء تونسي أصيل “برّة يعيش ولدي ضيّع وقتك في حاجة أخرى، فمّا والي هو يطلب مواطنين العاشرة ليلا ؟” فأجيبه “هاو عندك رقم مباشر، غدوة ثبّتو في عقلك وتصبح على خير”.
هي بعض الجوانب الاتصالية الحافّة لكنها تساهم في تأسيس مناخ من الثقة الذي يسهّل التواصل مع الناس وامتصاص نسبة هامة من غضبهم وحنقهم على سلطة احتقرتهم على امتداد نصف قرن … و لم تواجه توقهم إلى بعض الكرامة إلا بالمراوغة و التسويف وبعض الجرعات الأمنية نافذة المفعول.
رابعا :
من الظواهر التي تلمسها بشكل جلي وأنت تستقبل مئات المواطنين يوميا، أن بعضهم يأتي فقط ليسجّل في سيرته الذاتية أنه التقى بوالي الجهة و قال له بصوت عال إن الأمر لم يعد يطاق وأن اتصاله يعتبر تحذيرا أول قبل اتخاذ خطوات تصعيدية أخرى… و البعض الآخر (بصفة موازية تماما لحاملي الشهائد الجامعية العليا المعطلين عن العمل)، يجلس أمامك بكل ثقة في النفس ويدفع إليك بشهادة سراح من السجن بنية التأثير عليك وإقناعك بأن 2011 أسّس بشكل من الأشكال نوعا من “الشرعية السجنيّة” القابلة للاستثمار … و بعض آخر من الذين فاجأتهم الثورة و لم يتمثّلوا أنها حاملة لقيم جديدة تقطع مع ما كان سائدا قبلها فراحوا يطالبون بإعادة إنتاج نفس السلوكات غير السويّة من قبيل “خدّمت أولادي الكل، مازال كان وحيّد برك” … أو “ثمة قطعة أرض هي تابعة الدولة لا محالة، ما ثماش زعمة طريقة كيفاش نتوسع فيها؟ العايلة كبرت، ونزيد نصونها ونحفظها” … أو كذلك “ياخي اعلاش عملنا ثورة كان ولدي ما ينجحش بـــ 8 على عشرين ؟” … وأختم هذا الركن بظاهرة شدّت انتباهي خلال تلك الفترة وتتمثل في عقلية “محاضر الجلسات” كدليل إدانة للمسؤول المعني، حيث كان عديد المواطنين يعتبرون أن مجرّد عقد جلسة حوارية وتدوين محضر جلسة يلخّص ما تمّ التداول بشأنه (حتى وإن لم تحصل اتفاقات صريحة)، هو حجّة كافية لإثبات الحق وإقرار الموافقة على المطالب المطروحة.
خامسا وأخيرا :
لو كان لي أن أعطي هذه النقطة الخامسة عنوانا لأسميتها “كاموريات”. ..لأنها متعلقة بكيفية مواجهة التجاوزات القصوى التي ترافق أحيانا بعض الاحتجاجات الشعبية المشروعة … و التي عادة ما يحدث -عندما يطول أمدها- أن يتم اختراقها فيتسرب لها المنحرفون والنهّابون وقطاع الطرق وأصحاب المشاريع المشبوهة.
ظاهرة قطع الطرقات على سبيل المثال استفحلت بعد 2011 في كل الجهات بدون استثناء … و هي شكل احتجاجي يمكن تفهّمه لأن المواطن يدرك جيدا أنه في ظل الانفجار المجتمعي العام، لا يتيسّر لسلطة مرتبكة مازالت تبحث عن توازنها أن تنتبه لمشكل تزود بالماء الصالح للشراب في قرية نائية لا يعرف مسالكها المتشعبة إلا الشيخ غوغل والحرس الوطني.
لكن عندما يكون الاحتجاج مشروعا و للسلطة الجهوية بعض المصداقية، كنت شخصيا أرفض التحول إلى موقع الاحتجاج طالما ظلت الطريق مغلقة … و غالبا ما نجحت في إقناع المحتجين بإخلاء الطريق العام و الابتعاد بعض الأمتار فقط فينطلق حوار بيننا يدوم بعض الدقائق أو بعض الساعات قبل التوصل إلى حلول ترضي الناس و تقدر السلطة على تنفيذها.
وثمة في العادة 3 أنواع من الحلول بحضور المسؤولين الجهويين عن كل مرفق (حسب طبيعة المشكل المتسبب في اندلاع الاحتجاج) :
1) مشاكل تستطيع السلطة حلّها في اليوم نفسه بشيء من الإرادة و التعسف غير الضار على الإجراءات الاعتيادية
2) مشاكل يتطلب حلها بعض الوقت (لكن تتعهد السلطة بالرجوع الى نفس الموقع ومعاينة تقدم الأشغال في الآجال المتفق عليها).
3) مشاكل غير قابلة للحل في الإبان لكونها تتطلب إمكانيات ضخمة وتخطيطا مركزيا لكن على السلطة الجهوية أن “تضغط وتستبسل” في اقتلاع الموافقات الضرورية من الوزارات المعنية على تنفيذ بعض المشاريع ذات الطابع الاستعجالي.
مُقاربة ناجعة في اعتقادي لما يقتنع بها المواطن والمسؤول على حد السواء قد تشكل أرضية تعامل تقي مستعملي الطريق العام وجميع المستفيدين من ماكينة الإنتاج الوطني ومن مرافق الخدمات العامة… تقيهم ما ينجر عن الاحتجاجات السالبة للحرية والسيادة من إزعاجات وإرباكات مختلفة.