… ومع السلطة وُجدت إدارة، ونوى مؤسسات، ومرافق، وصحة وتعليم وأمن وتجارة وصناعة وفلاحة وبنوك ومبان من الحجر والإسمنت المسلّح بدل أكواخ المخيمات … وبين قوسين، إلى الآن ما تزال دولة كلبنان مثلا تمنع على الفلسطيني بناء أي شيء بالإسمنت فوق أرضها … وما زالت تتخايل أمام أعيننا مجزرة “صبرا وشاتيلا” جثثا متناثرة بين أزقة من قصدير …
وللحقيقة، فقد كنت من أشد الرافضين لأوسلو ومخرجاتها، ومن المتأكدين بأنها وبال على القضية الفلسطينية وخيانة لا تغتفر … وقد سعيت للتدليل على ذلك منذ العدد الأوّل لجلّنار من خلال مراسلنا القار في الضفة الغربية … طلبت منه إجابات عن أسئلة محددة وكلّي أمل في أن تكون سوادا على سواد ليطمئنّ قلبي ويطمئنّ تشاؤمي … عيش الفلسطينيين اليومي، ظروف عملهم، أحوال سكناهم، دراسة أبنائهم، بؤس مرافقهم، مدى أحزانهم، موت مرضاهم، جدب مزارعهم، امتهان كرامتهم، تفسّخ ثقافتهم، تكدّس جثثهم في الشوارع إلخ …
زميلنا الفلسطيني كان متطرّفا في رفض أوسلو أكثر مني، فقد سبق له أن عانى الأسر والاعتقال في سجون الاحتلال، وله في عائلته أكثر من شهيد، كما سبق له الاستقالة من وكالة وفا احتجاجا على” استسلام” عرفات سنة 91 … ولم يعد إلى الأرض المحتلة إلا بعد إلحاح من والده المسنّ حتى يراه مرة قبل أن يفارق الدنيا … وبعد وفاة الوالد انشغل مدة في تضميد جراح العائلة وهو كبيرها … ثم انشغل تارة في تزويج هذه الأخت وتارة في تمريض هذه الأمّ وتارة في حماية هذا الأخ الصغير من أصحاب السوء … ويوما بعد يوم، وجد أن إقامته مقدّر لها أن تطول أكثر فاستدعى زوجته المقيمة بتونس، ثم وجد عملا بإحدى الجامعات وأخيرا هاهو يستقر برام الله منذ ثلاثين سنة …
قلت إن زميلي من معارضي أوسلو وما يزال … ولكنه أيضا صحفي أمين لمهنته ولا ينقل الوقائع إلا كما هي، بعيدا عن أي شجن أو انفعال … لذا، فقد أجابني عما سألته نقطة نقطة … قال لي إنهم في صراع يومي مع المستوطنين الذين لا يفلتون فرصة أرض إلا استولوا عليها، وإن الحواجز الأمنية (الإسرائيلية) مبثوثة في كل مكان، بين المدينة والمدينة وأحيانا بين الحيّ والحيّ خاصة في القدس … وقال لي إن السلطة تعاني الأمرّين في تحصيل ميزانيتها بما أن كل المداخيل تمرّ حتما بإدارات العدوّ، فيتلكّأ في تحويلها وهي حق فلسطيني بحت … كما قال لي إن الاستفزازات والمناوشات يومية مع قوات الاحتلال على الأطراف، وقد تتصاعد وتيرتها أحيانا إلى عنف واعتقالات …
ولكنه قال لي أيضا إن الفلسطيني في هذه المساحة المحدودة أرضا وقدرات وصلاحيات، استطاع أن يؤسس لنفسه حياة اجتماعية مستقرة بعض الشيء … فهناك مؤسسات تعمل، ومدارس يؤمها التلاميذ، وجامعات عامرة بالطلبة، ومراكز بحث ومصانع وطنية ومتاجر لتلك الصناعات … وأرسل لي صورا لمستشفيات نظيفة بأطبائها وممرضيها وغرف عملياتها المجهزة أحسن تجهيز … ومعها شوارع مشجّرة وحدائق ومقاه ومطاعم ومساجد وكنائس ومسارح ودور ثقافة … كل هذا تجلله الأعلام الفلسطينية وشعار دولة فلسطين بخط عربي جميل فوق الترجمة الإنكليزية … و لا وجود للّفظ العبري على الإطلاق …
وطبيعي أن يستفزّ هذا النجاح غرائز العدوّ المتربص بأي نفس فلسطيني حيّ … فيسعى إلى التضييق والتعطيل قدر ما يستطيع … ويمطط إجراءات ويمنع تراخيص ويتحرّش ويتذرّع بأي سبب لكي يدفع الفلسطينيين من جديد نحو باب الخروج … فهو أول النادمين على عودتهم بعد أوسلو، بدليل اغتياله رئيس وزرائه الذي وافق مكرها رغم ماضيه الدموي … خاصة أن الوضع الجديد انعكس إيجابا على عرب 48 الذين اكتسبوا بعدُ جنسية الكيان وكادوا يذوبون في تركيبته الهجينة … ولكن كمواطني درجة ثانية … فوجدوا سلطة وطنية تضع حقوقهم على سلّم أولوياتها ومفاوضاتها … وراجعهم صوت الماضي فإذا بهم سرعان ما يتجاوبون مع نداءات دولتهم وشعبهم … وأصبحوا يثورون ويتظاهرون بأعلام فلسطين، لأي ضرر يمسّهم أو يمسّ أبناء بلدهم في الضفة والقطاع …
وهنا تجيء الحلقة المفقودة … الحلقة اللغز … نقطة الاستفهام الكبرى التي تستعصي على أي فهم … يقسم لي صديقي أن البداية كانت مشجعة بعد العودة … حصلنا على بعض مكاسب بفضل نضال سياسي ومفاوضين مهرة كصائب عريقات وحيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني والدكتورة حنان العشراوي … كانت مفاوضات مضنية ولم تتوقف بل في كل يوم نتأخر خطوة ونتقدم خطوتين … وقد ذكرنا ذلك أعلاه وأكثر …
لقد قلنا إن العدوّ كان يواجه مفاوضين مهرة ووسطاء دوليين، وكان لا بدّ له من مهرب لكي يكسب الجولة، أو لا يخسر على الأقلّ … والطرف الفلسطيني كان متلاحما منضبطا حريصا على ألاّ يعطي فرصة نجاة لخصمه … كانت كلمة العبور هي ضبط النفس أكثر ما يمكن، وعدم الوقوع في فخّ أو دوّامة عنف قد تنسف جهد المفاوضين … وكان العدوّ يفعل كل شيء لكي يوقعهم في شراكه … استمرار في إنشاء مستوطنات، مضايقة مصلين، مشاريع حفريات حول المسجد الأقصى، اعتقالات مختلفة، منع حركة، حجز مستحقات إلى غير ذلك …
وبقدرة قادر، وحين ييأس الاحتلال من أي مخرج ويوشك على تقديم تنازلات، تأتي إليه هدية من السماء لم تكن لتخطر على بال …