ليس من السهل أن تسكن قلوب الناس أو حتى ذاكرة بعض الناس ما لم تفعل شيئا عظيما من أجلهم…استمعت صباح الأمس إلى البطاقة الصوتية للصديق محمد بوغلاب، لن أسرد هنا ما جاء فيها لكن سأكتفي بالحديث عن الجزء الأول من البطاقة وهو الذي أوحى لي بما أكتبه اليوم، هذا الجزء يروي قصّة طبيبة بريطانية تدعى مارغريت ماكولوم التقت سنة 1992 بممثل بريطاني مغمور يدعى أوزوالد لورانس وتزوجته، أوزوالد هذا سجل بصوته إعلان “Mind the Gap” للخطّ الشمالي لمترو لندن منذ أكثر من أربعين سنة...
توفي أوزوالد عام 2007 وبعد وفاته بدأت مارغريت ترتاد يوميا محطة “إمبانكمينت” فقط لسماع صوت زوجها المسجّل في الإعلان وتعود بذاكرتها إلى حياتهما معا فحبّ مارغريت لأوزوالد كان كبيرا وأوزوالد لم يبخل يوما على مارغريت بشيء… قبل أعياد الميلاد سنة 2012 مباشرة، اتصلت مارغريت بالموظفين في محطة مترو “إمبانكمينت” التي ترتادها يوميا لسماع صوت حبيبها، وظلت تسألهم “أين ذهب الصوت؟” ولم يعوا ما تعنيه بالصوت، قالت: “الصوت” صوت الرجل الذي يقول (احذروا الفجوة)…حينها فهموا ما تعنيه وطمأنوها بأن “الصوت” تم تحديثه إلى نظام رقمي جديد، مع إضافة أصوات أخرى لمزيد التنوع، أوضحت لهم مارغريت أن ذلك الصوت في نسخته الاصلية له أهمية خاصة بالنسبة إليها لأنه صوت زوجها التي لم تنسه وتعيش على ذكراه بمجرّد سماعه يوميا…اهتم الجميع لأمر مارغريت وعثروا على التسجيل الأصلي وتمّت رقمنته وأعادوا لأوزوالد صوته على الخطّ الشمالي لمترو لندن ثم أعادوه خصيصا لمحطة “إمبانكمينت” التي ترتادها مارغريت لتتمكّن من سماع صوت حبيبها…وتعود إلى حضنه عبر صوته…
هكذا لم تنس مارغريت زوجها وخلدته في ذاكرتها بارتياد محطة المترو يوميا فقط لسماع صوته…مارغريت لم تنس أوزوالد يوما…ولا شيء في حياتها أنساها زوجها…ولا أحد أحبته بعد أوزوالد …وهكذا نحن اليوم في تونس نعود لماضينا كل لحظة …ونتحسر على ما عشناه كل ثانية…ولم ينجح أي من الذين حكموا البلاد منذ 2011 إلى يومنا هذا في وضع الاسلاك الشائكة حول ماضينا الجميل وطمس معالمه أمام اعيننا وذاكرتنا رغم بعض ما فيه…رغم نواقصه …فماضينا كان أجمل من حاضرنا بكل المقاييس… ونحن اليوم نعيش “الفجوة” التي كثيرا ما نبّه منها أوزوالد…وعاشت مارغريت على ذكراه من خلال “Mind the Gap”…من حقّنا إذن ونحن نفاخر بما عشناه من زمن خال من الحقد والكراهية والانتقام، أن نرتاد محطاتنا الجميلة التي عشناها وأن نغني ما غنته أم كلثوم “ذكريات حبي وحبك ما انساهاش هى أيامى اللّى قلبى فيها عاش…فيها أحلام قلتها وحققتهالى فيها أحلام لسه أنا ما قلتهاش”…لكن ماذا سيغني من يفاخرون اليوم بحقدهم وانتقامهم وثأرهم من كل قديم ومن كل من حكموا قبلهم ومن كل من يخالفهم الرأي وأية محطّة سيرتادون لاحياء ذكرياتهم السيئة والموجعة… فهل سنستمع إلى ما غنته نوال غشام “ما فيه ما نتذكر ماضي هواك جراح…” أم سنستمع لما غنته الراحلة ذكرى “اسأل عاللي راح عاللي مضى ما يعود…خلفت في اجراح راح الهوى ما يعود…انت السبب فللي جرالي ياللي عليك طال انشغالي” بصوت من عاثوا في أعراض الناس فسادا …