بن علي هرب .. بن علي هرب .. الشعب التونسي حرّ .. تحرّرنا .. تحرّرنا …
هكذا كانت الصرخة الشهيرة في شارع الحبيب بورقيبة مساء 14 جانفي 2011 .. صرخة مازالت أصداؤها ترنّ في آذان الكثيرين منّا بما امتزج بها من تكذيب و تصديق، من خوف و فرحة، من أمل وحيرة .. صرخة سَكْرَى بنسمات الحرّية التي أطلّت من بين براثن العنف و الموت و دهاليز السجون وروائح الدّماء …
ليلتها كانت هتافات المتظاهرين و صرخات الديقاج dégageمازالت تتردّد في جنبات الشارع رغم إقفاره حينها … كانت أضواء الإنارة الليلية الخافتة تتلألأ بأشعّة جديدة لم يعهدها المواطنون من قبل …
نفس الشارع كان مسرحا لكلّ ما تلا ذلك التّاريخ على امتداد سنوات و عايش ومجموعة من التجاذبات، من المسيرات و المظاهرات بعضها مساند للحكام على امتداد عشرية كاملة و أغلبها رافض و مندد بالسياسات و التوجهات وخاصة بالانحراف بأحلام الشيب و الشباب من شغل حرّية كرامة وطنيّة، إلى صراع عن الهوية و على المناصب و المواقع و سيطرة على مفاصل الحكم والانتصار للمصالح الخاصة على حساب مصلحة عموم أبناء الشعب …
من المنقالة و حتى لتمثال ابن خلدون، شهد هذا الشارع مختلف فترات و تطوّرات العقد الماضي .. عشرية سوداء ارتفعت فيها راية العُقاب كما يرى البعض، أو حمراء مضرّجة بدماء شهداء الإرهاب كما يؤكد البعض الآخر .. أو هي عشريّة التقهقر و الانحدار و الخروج من التحضر و الحداثة و التمدن و الاستقرار، كما ترى مجموعة أخرى …
نفس هذا الشارع كان بالأمس و من جديد مسرحا لتحركات و مظاهرات قاومتها السلطة بقوّة القرارات الاستباقيّة، بمنع التّجمعات بحجّة انتشار الوباء و الخوف على الوضع الصحي في البلاد، و بقبضة الأمن والبوليس الذي فرّق المحتجين بالهراوات و الماء الساخن و الإيقافات ..
هذا الشارع يوم 14 جانفي 2011 كان المتظاهرون فيه متحدين لم تفرّقهم الألوان السياسية و الحوانيت الحزبية هادرين بصوت واحد مطالبين بإسقاط النظام، و صار اليوم منقسما و في كلّ زاوية من زواياه انتصبت مجموعة تنادي بنفس المطالب تقريبا، و لكن تعلن في نفس الوقت عن تمايزها عن الآخرين .. شارع تأثر بتبعات عقد كامل من الفشل و سوء الاختيار، و تأثر بتقسيمات جديدة طفت على السطح كالفقاعات بين بورقيبيين و يوسفيين و أزلام و ثوار و خوانجيّة و علمانيين و بلديّة و مهمّشين، و تواصلت التسميات إلى اليوم من أنصار 25 و المناهضين لهم .
خرج من خرج بالأمس ليؤكد على تشبّثه بالمكسب الوحيد الذي بقي له من 14 جانفي بعد الإخفاقات في عديد المجالات، مكسب حرّية التعبير ـ رغم ما شابه هو الآخر من تجاوزات – و لكنّ ما رأيناه بالأمس لا يختلف كثيرا عمّا رأيناه في 9 أفريل 2012 و في أحداث الرش في سليانة و في مشهد البرلمان و قد حماه المشيشي منذ أشهر بالمدرّعات، و ما رأيناه في أروقة الوزارة أثناء اعتصام الدّكاترة المعطّلين .. فكل من يمسك بالبلاد يطوّع أجهزة الدّولة للدفاع عن سلطته و لتثبيت أركان حكمه، ناسيا استقراء التاريخ الذي أثبت في كلّ مرّة أن القبضة الحديديّة ليست دوما قادرة على إخضاع المواطنين، و أنّ تغيير تواريخ الأحداث لا يمكن أن يمحوها من ذاكرة الشعوب، و أنّ المناسبات الوطنيّة لا تتحدّد بجرة قلم أو بمجرّد أمر رئاسي .
فرض رئيس الجمهوريّة تاريخا جديدا للاحتفال “بلحظة الانفجار الثوري” كما يسمّيها فأعطى لمعارضيه فرصة إضافيّة للاحتجاج و التظاهر ضدّه و ضدّ إرادته الفردانيّة التي أهملت رمزيّة يوم 14 جانفي، ثمّ خرج كمال الفقي والي تونس الجديد ليؤكد و هو يفتل شاربيه أنّه لن يسمح بالتظاهر يومها و ليطلب من المعارضين الصمت .. قائلا (عاونونا بالسكات”) معتبرا أن من يرفضون “الانقلاب” هم من الماضي الذي لا يحق له العودة واضعا الجميع في خانة واحدة … فمن أين جاء بهذا اليقين ؟ و من أكّد له أن الرافضين للحكم الفردي هم من الماضي ؟ هل كلّ من يعارض الانفراد بالسلطة و القرار، هو حتما ممّن حكموا في الماضي أو ممن ساندهم ؟ هل إذا ما كانت النّهضة تعارض قيس سعيّد من أجل العودة إلى الحكم، فعلى البقية أن يلزمــوا الصّمت و يســــاندوا قرارات الزّعيـــــم الأوحد ؟ أليس من حقّ من عــــارض قيـــــام الدولة على الحزب الواحد – سواء كان التجمع زمن بن علي أو النهضة زمن الترويكا – أن يعارض قيام الدّولة على الشخص الواحد ؟؟
إنّ الديموقراطية تُبنى على الاختلاف و المعارضة لا على الاصطفاف و المبايعة و إلا صار الشعب رعيّة لا مواطنين … فالمساندة المطلقة لا تنتج غير الدكتاتوريّة
إن أخطاء عشرية كاملة لا يمكن أن تعالج بأخطاء جديدة و شعار “موتوا بغيظكم” الذي أطلقه أنصار النهضة سنوات حكمها، لا يمكن أن يتبنّاه اليوم من اكتووا بناره سابقا … فكمّ الشماتة و السخرية من المتظاهرين الذي رأيناه أثناء التّضييقات البوليسيّة بالأمس لا يمكن أن يبني بلدا، و تبرير العنف ضدّ الخصوم لا يمكن أن يمتّن أركان دولة، و لا أن يجعل الشعب قادرا على مواجهة تحدّيات اقتصاديّة مقبلة وأزمة غير مسبوقة تُجمع كلّ التقارير الدّولية أن تونس ستجابهها في الأشهر القادمة
إنّ الديمواقراطية تعني الاحتفاظ بالمكاسب والايجابيّات و إصلاح الأخطاء و تجاوز النقائص و عدم معاداة الجميع، و التوقّف أحيانا من أجل مراجعة المواقف و تلمّس الطريق الصحيح …
و بدل تخوين كلّ المعارضين و نعتهم بالخونة و الحشرات و الجراثيم، و توجيه سياط غضبه نحوهم والاستشهاد بنظامي الشيلي و فينزويلا لشعب مازال يتلمّس طريقه نحو الديموقراطيّة … لمَ لا يستشهد الرئيس – ضامن الحريات و وحدة الدولة – بتجربتي غاندي و مانديلا حتى لا يهدم أركان الدّولة، من حيث كان يريد أن يهدم المنظومة السابقة …