وهْجُ نار

مولاي…ظننّاك ساهرا علينا…فنمنا…فجاع أبناؤنا…وسُرقت أغنامنا !

نشرت

في

سنة 1984 قال الزعيم بورقيبة رحمه الله جملته الشهيرة “نرجعوا وين كنّا”…بورقيبة كان زعيما يدرك خطورة التعنّت وعدم الاستماع إلى خطاب العقل والمنطق…فهل نحن في وضع شبيه بما وقع سنة 1984 أم نحن في وضع أخطر بكثير من ذلك؟

<strong>محمد الأطرش<strong>

نعم نحن في أخطر وضع يمكن أن تعيشه البلاد منذ نشأتها…فكل الأرقام تدلّ على أننا في سقوط مستمر رغم ما سيصلنا من صندوق النقد الدولي…ورغم ما قد يصلنا من دول أخرى ومنظمات عالمية مانحة… فما سيصلنا لن يكفي ردم فوهة العجز في ميزانية 2022…ولن يكفي حتى لخلاص ما بذمتنا من ديون لصندوق النقد الدولي…ولن يساهم في إعادة خلق الثروة وهي المخرج الوحيد لما نحن فيه…بعد مصالحة يدنا اليمنى مع اليسرى…

قبل 25 جويلية تاريخ الأوهام والأحلام التي جاءنا بها ساكن قرطاج، كانت الأحزاب وشريكها الاغلبي في الحكم اتحاد الشغل يتحملون مسؤولية كل الخراب وكل المعاناة وكل المصائب التي حلّت بالبلاد، وهم المسؤولون أيضا عن كل النجاحات إن وجدت…لكن بعد ابعاد الأحزاب عن سدّة الحكم فإن هذه الأخيرة لن تتحمّل تبعات إخفاقات مَن حَكَم بعدها ومَن أمسك بزمام شؤون الحكم…كما أنها لن تتحمّل تبعات ما سيعيشه الشعب والبلاد والدولة بعد ذلك التاريخ وأقصد يوم 25 جويلية الذي لم يأت بأمر واحد ينفع العباد ويصلح حال البلاد…لذلك فساكن قرطاج هو من سيتحمّل تبعات كل ما يعانيه الشعب…وما سيعانيه …وهو من سيحاسبه الشعب يوم يكون الحساب…ويوم امتحان الصناديق وفتحها وفرز ما جاء فيها…فهو من اختار ذلك ولا أحد سيقبل اليوم أن يحمل معه ثقل التبعات…

لسائل ان يسأل هل انشغل ساكن قرطاج يوم مسك زمام كل مفاصل الحكم والدولة بشؤون الشعب؟ هل فكّر كيف يغطّي العجز الذي ينخر ميزانية الدولة؟ هل انشغل بتوفير أدنى احتياجات هذا الشعب المسكين؟ هل انشغل بربط علاقات جيّدة وإصلاح ما فسد منها مع دول قادرة على مساعدتنا للخروج من أزمتنا؟ هل انشغل بالإصلاح بين مكونات البلاد السياسية وتوحيد أهدافها لتكون في خدمة الإصلاح وإعادة الحياة لآلة الإنتاج التي تعطّلت بسبب الحرب الدائرة بين هذه المكوّنات؟ هل انشغل بتقريب وجهات النظر وإصلاح ذات البين بين ماضي البلاد وحاضرها لتوحيد جهود إعادة الاعمار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبلاد؟ هل انشغل بترميم أوضاع الطبقة الوسطى اجتماعيا حتى لا تندثر وتلتحق بمن هم تحت خطّ الفقر؟ هل انشغل بخلق الثروة وإعادة الروح للاستثمار؟ لا…لم ينشغل ساكن قرطاج بغير حربه الدائرة على كل من حكموا قبله وكل من لم يعلنوه البيعة والولاء…والأغرب هو أنه لا يزال إلى يومنا هذا يظنّ أو أوهموه أنه على حقّ في كل ما أتاه…وهذا هو الخطر الأكبر على البلاد…فالخطأ ليس جريمة فكل الرؤساء يخطئون لكنهم يراجعون حساباتهم ويصلحون ما أتوه…بمجرّد الاعتراف بأنهم سلكوا طريقا خطأ…وبمجرّد التفطّن لخطورة الطريق التي سلكوها…

ساكن قرطاج لم يفكّر أبدا في إصلاح ما يمكن إصلاحه من أوضاع البلاد…ولم يعط للأمر الأولوية والأهمية التي يجب بل فكّر في أمر واحد هو كيف يكتب تاريخ البلاد على مقاسه هو…وهو فقط… وفكّر كيف يحافظ على الكرسي لعهدة ثانية وهو الذي لم يفعل شيئا في عهدته الأولى…وكأن الأمر بهذه البساطة…وكأن الشعب سيعيد انتخابه وهو الذي لم ير منه غير ما سمعه في خطب ناسفة لم تستثن أحدا من خصومه ومن شركائه الذين حكم معهم لسنة ونصف…فكانت الاستشارة …ثم الاستفتاء ثم ختمها بدستور على المقاس…فهل هذا ما كان ينتظره الشعب منه؟ لا أظنّ ابدا… وكأني بساكن قرطاج لم يدرك إلى يومنا هذا ما يعانيه الشعب…فالدستور لن يعوّض الحليب …ولن ينفع أن يكون وقودا لسيارات الشعب…ولا يمكن أن يصبح زيتا للطبخ…ولا يمكن أن يوفّر موارد رزق للعاطلين الذين ينتظرون منذ أكثر عقدين أو أكثر عملا يعيد إليهم كرامتهم المسلوبة …ولا يمكنه أن يمسح دمعة أم فقدت فلذة كبدها في البحر…دستور ساكن قرطاج لا يمكنه ان يرفع المظالم التي عاناها بعض هذا الشعب…كما لا يمكنه أن يملأ خزائن الدولة مالا… لأنه جاء فقط ليجعل من ساكن قرطاج سلطانا على البلاد والعباد بصلاحيات لا يتمتع بها بعض ملوك الأرض…وجاء لينزع من نواب الشعب كل صلاحياتهم التي وفرها لهم دستور 2014…ولينزع من ساكن القصبة كل صلاحية…وليضمن لساكن قرطاج عهدة أخرى وربما أكثر سلطانا على البلاد …

وكأني بساكن قرطاج أدرك أن “الكابوسان” وسيجارة “الكريستال” أو غيرها من السجائر التونسية لوحدها، ونظافة اليد لوحدها والتاريخ الخالي من دسم السياسة لن يضمنوا له لوحدهم الجلوس لعهدة ثانية على كرسي قرطاج…وكأني بساكن قرطاج تفطّن لما يمكن أن يتفطّن له الشعب الذي انتخبه لمجرّد نظافة يده، وكأني به قرأ ما وقع لعمر الفاروق حين سأل يوما بعض من هم حوله عن رجل ما إذا كان أحدهم يعرفه…مباشرة بعد سؤال عمر الفاروق قام أحد الحاضرين ليقول: نعم انا اعرفه يا امير المؤمنين، فسأله عمر: لعله جارك فالجار اعلم الناس بجاره بأخلاقه وطباعه…؟ أجابه الرجل: لا يا أمير المؤمنين…فأضاف عمر قائلا: لعلك إذن سافرت معه ففي السفر كشف لمعادن الناس وأخلاقهم؟ قال الرجل: لا يا امير المؤمنين…فسأله عمر: لعلك تعاملت معه في التجارة وفي المال والأموال والدينار فعند الدينار يعرف أبناء الدنيا من أبناء الآخرة…؟ أجاب الرجل: لا يا أمير المؤمنين…فقال الفاروق عمر: لعلك عرفته في المسجد عند الصلاة يهز رأسه قائما وقاعدا…؟ فأجاب الرجل: أجل يا أمير المؤمنين: فنهره عمر الفاروق قائلا: اجلس فإنك لا تعرفه…وكأني بالفاروق يقول لنا إن المظاهر لا تكفي للحكم على الناس…فأن تكون نظيفا لا يعني أنك قادر على إدارة شؤون دولة بملايين من السكان…

ساكن قرطاج حشر كل من حكموا قبله في خانة الفاسدين والمفسدين وأضاف إليهم من فاز معهم بكراسي الحكم…ولم يأتنا إلى يومنا هذا بدليل واحد يؤكّد اتهاماته، فهو استمع فقط لما يرويه اتباعه على صفحات الفايسبوك وعلى منصات التواصل الاجتماعي…فكل من اتهمهم بالفساد اتهمهم بالسماع، دون أدلة ولا اثباتات ملموسة تجعلهم عرضة للمقاضاة …ساكن قرطاج لم يستمع لغير أحقاد أتباعه …ولم يستمع لغير طموحه الجارف للبقاء عهدة أخرى في قرطاج سلطانا له جميع الصلاحيات ليحكم كما يريد بما يريد…ساكن قرطاج عوّل فقط على موجة الحقد المتصاعدة على من حكموا منذ 14 جانفي ليبعدهم عن طريقه دون أن يحقّق إنجازا واحدا مما كان ينتظره الشعب…

ألا يعلم أنه المسؤول الأول والأخير عن كل ما تعيشه البلاد…فهو المسؤول عن فقدان العديد من المواد الأساسية…وهو المسؤول عن انخرام جميع التوازنات المالية…وهو المسؤول عن كل هذا القلق الذي يعيشه الشعب في عهده…وهو المسؤول عن كل من ماتوا غرقا في المتوسط فلو فكّر في إيجاد حلول لأوضاعهم ولو فكّر كيف يبعدهم عن حالة الإحباط لما اختاروا الهرب من بلادهم نحو أوطان أخرى تحتضنهم وتداوي جراحهم وتخفف عنهم وطأة ما عانوه هنا في وطنهم الأم…كما أنه المسؤول عن كل الأخطاء التي وقعت فيها مؤسسات الدولة…وهو المسؤول عن اختياره لأتباعه في خطط إدارية سامية بالجهات…وهو المسؤول عن أخطائهم التي لا تنتهي، لأنه لم يفكّر في الكفاءات الإدارية القادرة على تحمّل مسؤولية الحكم والدولة في الجهات بل فكّر في مجازاة أتباعه ممن صفقوا وصرخوا باسمه طويلا في حملة “الكابوسان”…وهو أيضا المسؤول وهنا يكمن الخطأ الأكبر عن كل المظالم التي وقعت في عهده…عن كل من سجنوا ظلما فقط لأنهم قالوا له لا…وعن كل من شُيطنوا ظلما فقط لأنهم رفضوا خياراته واختياراته وقالوا لا…وعن كل من أُبعِدوا من مواقعهم الوظيفية فقط لأنهم لم يصفقوا لما أتاه…ألم يحمّل هو مسؤولية كل الخراب لمن سبقوه في الحكم…

فليقبل بتحمّل مسؤولية كل الدمار التي تعيشه البلاد في عهده…وكل المظالم والأخطاء التي ارتكبت في عهده…فهو المسؤول عن حياتنا…وعن حرياتنا…وعن رفع المظالم عنّا…وعن توفير كل متطلبات العيش الكريم…وهو المسؤول الأول عن فقدانها، وعن أي وجع نشعر به فنحن الشعب الذي يفاخر في خطبه بأنه هو من يحكم وأنه جاء ليخدمه…ألم يصرخ طويلا “الشعب يريد” أي نعم…فهو المسؤول الوحيد عمّا يريده الشعب…فالشعب لا يريد ما يريد…لكن عليه ان ينفّد ما الشعب يريد والشعب ليس فقط بعض الذين هرولوا نحوه يعلنون البيعة والولاء وهم الأقلية…الشعب هو من معه ومن ليس معه…من يصفّق له ومن يصرخ ناقدا لما يأتيه…ألم يقرأ عن تلك المرأة التي ذهبت للسلطان سليمان تشتكي من بعض اللصوص الذين سرقوا أغنامها فقال لها: “لِمَ لَمْ تسهري على أغنامك؟” فأجابته: “ظننتك ساهرا علينا فنمت…”

نعم فنحن الشعب نريد ان ننام ملء جفوننا ونطمئن على حالنا وأحوالنا لأننا ائتمنّاك على أنفسنا وما نملك…فهل أنت فاعل “مولاي” فالتاريخ لا يكتب بالأحقاد؟؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version