وأنا أقرأ كتاب “البُعد الخفيّ” لإدوارد تي هول، تمنّيت لو كان الكاتب مطّلعا على الثقافة الشعبية التونسية ليُدعّم فكرته المتصلة بالثقافات ذات السياق العالي، بأمثلة ملموسة من معيشنا اليومي في المقاهي وشبابيك الإدارة وعربات النقل العمومي وما يتمّ تبادله عبر الهواتف ومساحات التراسل والتواصل.
وقبل استعراض البعض من هذه الأمثلة المؤيّدة لفكرة أننا كتونسيين منتمون إلى سياق ثقافي هلامي وعال وعائم جدا، قد يكون من المُفيد قول بعض الشيء عن صاحب مقولة “الزمن ناطق، ويصدح بالحقيقة أحيانا عندما تكذب الكلمات”.
إدوارد تي هول (1914-2009) عالم أنتروبولوجي أمريكي عُرف خاصة بإشاعته لمفهوم المثاقفة أو تواصل الثقافات واهتم بالأبعاد الخفية التي تحكم سلوكاتنا بصفة لاواعية في مجالات التواصل والزمن والفضاء.
بالنسبة إليه، كل ثقافة تتوفر على نموذجها الخاص في التواصل الذي لا يتحدد بموجب مضمون الرسائل فحسب. بل إن شكل الرسالة وصيغتها هما في أغلب الأحيان أهم من محتواها، الشيء الذي سيدفع به إلى التفريق بين سياقين للتواصل : سياق عالٍ وسياق منخفض.
في الثقافات ذات السياق العالي (مثل شعوب آسيا والشرق عامة وإفريقيا)، يكون للكلام قيمة أقل بالنسبة إلى السياق والمناخ الذي يتحقق فيه التبادل. يكون الفرد في غير حاجة إلى معلومة صريحة ومصوغة وفق قواعد محددة من أجل أن يتواصل ويتفاعل مع محيطه. ويعتمد التواصل هنا على روابط بين شخصية قوية، بحيث يكون التواصل ذاتيا وغير رسمي وعادة غامضا وغير لفظي ويستدعي أشكالا أخرى من التعبير التي تتجاوز المعاني المباشرة للكلام.
في هذا النوع من الثقافات يكون الانتماء إلى مجموعة مهم جدا ويُولى اهتمام أكثر من قبل الأفراد إلى معاني “المعايشة” وجودة التفاعلات. هو سياق لا يثق فيه الفاعلون بالوثائق المكتوبة ويُخيّرون الإجراءات المرنة والسّائلة.
ويتضمّن هذا النسق ثراءً علائقيا وتواصليا كبيرا (الإيحاء والتضمين والدلالات الحافة واللايُقال ولحظات الصمت الصائت وغير المباشر والمضمر والكامن …) وعادة ما يتسبب في سوء تفاهم وتشنجات مع أشخاص منتمين إلى ثقافات سياقها منخفض.
أما في النوع الثقافي المقابل (ألمانيا وكندا وأمريكا مثلا) فتكون المعلومة موضوعية ورسمية وتُصاغ عبر قواعد تواصلية دقيقة ومكتوبة وتكون المعلومات واضحة ومحددة خاصة عند بلورة الأهداف. التواصل في هذا النموذج صريح ومباشر (الأولوية للتحليل وتعقّل المواقف) يتبادل ضمنه الأفراد كمًّا كبيرا من المعلومات على حساب ثراء السياق وخصوبته، فلا مكان لغموض الرسائل أو ضبابية معانيها (منطق استنتاجي وفق قواعد صريحة ومُتعارف عليها على نطاق واسع).
ومن المهم الإشارة كذلك إلى أن التواصل في هذا المنوال يكون باردا وعقلانيا ومحسوب النتائج منذ البداية ويتأسّس على الوضوح والاختصار مقابل المُبهم وغير الدقيق.
هنالك طُرفة متداولة تُجسّد تماما حدود التعارض بين السياقين الثقافيين العالي والمنخفض، وهي قصة مواطن تونسي له صديق ألماني تهاتفا صباحا للاتفاق على موعد مسائي يلتقيان خلاله في مكان ما ليحتسيا القهوة سويّا ويتحدّثان فيما يهمّهما.
فبادر التونسي بالقول : “مالة نتقابلو العشيّة كان عشنا مع الأربعة هكاكة، الأربعة ونصف… في المكان الفلاني”، فأجابه صديقه الألماني “من رأيي مرة واحدة تكفي، لِمَ نلتقي مرتين ؟”
ملتويات تواصلية لا يُحكم نسج خيوطها جيدا إلا التونسيون
التونسي لا يمنحك ثقة ولا يرتاح إليك وإلى ما تقوله إذا أنت لم تُمعن النظر مباشرة في عينيه والاقتراب منه (أكثر مما هو مسموح به اعتياديا إذا لزم الأمر) ومسكه من يده للتأكيد على حميمية العلاقة بينكما … ومناداته باسمه الصغير (عكس ما هو مُتعارف عليه في الثقافات الأخرى من ضرورة مناداة الأفراد الذين لا تربطنا بهم علاقات خاصة بألقابهم، كأن نقول السيد بيفو بدلا من السيد برنار) لمزيد شحنه عاطفيا، ولِم لا تذكُّرَ والدته خالتي مْنى للترحّم عليها واستحضار كرمِها ووقارها وسخاء مطبخها العامر دوما.
والتونسي يحفظ جيدا المثل الشعبي “كلمة لا ما تجيب بلاء” لكنه يزدريه ويتحاشاه لأن قُدسيّة العلاقات العائلية والقوة الرمزية لعلاقات الصداقة (بغثّها وسمينها) وكذلك نزعة التّوقير المهيمنة على العلاقات العامة إلى حدود زمن غير بعيد، كل هذا يمنع الأفراد من التعبير عن رفض حادّ لطلب ما أو ممانعة جافة وفظّة لقبول مضمون التماس معيّن عبّر عنه أحدهم… فإما أن يقبل على مضض ما طُلب منه ويكون متأكدا بنسبة عالية أن ما أعاره لن يعود أو ما قدّمه من خدمة (سيتعب في نيلها لفائدة غيره) لن يستتبعها اعتراف بالجميل… أو أن يلتجئ إلى ملتويات تواصلية تحفظ ماء الوجه وتضمن نصف اقتناع الشخص المقابل، مثل “والله نشالله يبقى بعدي لا نكسابها” كما كانت تقول والدتي رحمها الله، أو “والله طلْبتك عزيزة وإلّي بيناتنا أكبر وأثمن مالفلوس يعطيها ربْيَة وبوك راهو صاحبي برشة كالاخوة آنا واياه، آما والله جيتني في لحظة ماهيش هيا جملة ماك تعرف مصروف رمضان والعيد ودبش الصغار وفلوس الإيتيد، الخ…” بدلا من القول “لا أستطيع” ببساطة.
والتونسي يجب أن تحذر ردود فعله عندما ينزل ضيفا عليك لأن حياءه الفطري يمنعه من التعبير بوضوح عن رغباته وما يفضّله من أكل وما لا يفضّله. فعلى سبيل المثال عندما يكون الجميع على طاولة الغداء أو العشاء، يجب أن تنتبه أنه اكتفى بأدنى ما يمكن وضعه في صحنه وبالتالي عليك أن تُصرّ وتُلحّ وتُقسم بأغلظ الأيمان حتى يقتنع ضيفك في النهاية (وهو الذي يتضوّر جوعا بعد كل المسافة التي قطعها) بإشباع الصحن في البداية وإكرامه في النهاية.
والتونسي لا يُسمّي أبدا الأشياء بأسمائها مُستحسنا الذهاب إلى المعاني من نوافذها الخلفية لأن التعرّي أو “الكِشفة” من الآثام التي يصعب تحمّل وِزرها ذهنيا وأخلاقيا ودينيا… كأن يمتنع عن قول “نحن نعيش حبّنا بكل معانيه” بل “الحمد لله هانا عايشين ومستورين” أو أن يعترض على ما أتاه شاعرنا الكبير الراحل مؤخرا محمد الغزي الذي قال بشكل مباشر “على الأرض خمور لم أذق أطيبها وذنوب جمّة لم أقترف أجملها” … مفضّلا إطلاق تسميات ملتوية من قبيل “الشادلية” أو “المعصية” أو “المحنة” أو “التڨديرة” (بالقاف المُثلّثة) نسبة إلى القِدر الذي تُعدُّ داخله بعض الأكلات البسيطة المُؤثّثة لمجالس الأنس بين الأصدقاء.
والتونسي ينزع إلى استعمال صيغ التصغير وكأنه يعتبر في لاشعوره عدم جدارته بتلك الأشياء في كمالها ومطلق بهائها، فالدار التي يبنيها “دويرة” والسيارة التي يشتريها “كريهبة” والعشاء الذي يتناوله مساءً “عْشَيْ”… إلا إذا كان ذلك في مطعم فاخر حينئذ يصبح “عشاء وعليه الكلام”.
والتونسي يُطيل بشكل غير طبيعي بروتوكول التسليم والتوديع. فبدلا من صباح الخير ويعود إلى السطر، يقول “السلام عليكم فينك يا معلم صباح الخير آش تعمل هاك قايم بكري اليوم آما عينيك منفوخين لازم سهرت البارح شفت الطقس اليوم متاع تبحيرة بصراحة آما هاك تشوف…” وعندما تودّعه مساءً لا يكتفي بـ “تصبح على خير” فهي جرعة غير كافية للتعبير عن كل الودّ (الواهم في أغلب الأحيان) الذي يكنّه لك فينطلق في جُمل مسهبة لا تنتهي إلا بالاطمئنان على فرصة اللقاء مجددا في الغد صباحا.
والتونسي يُبدع في تلغيزه للخطاب ويُطالبك بأن تفهمه “عالرّمش” شاهرا في وجهك “آنا نقلك وانت ما يخفاك” والا “لازم نقلك هنا بير باش تفهم ؟” وخير المتكلّمين عنده هو من يُتقن التلميح بدلا من التصريح ومن يقول من الكلام أقلّه وألطفه.