تابعنا على

جلـ ... منار

نبوءات نجيب محفوظ

نشرت

في

بحس الروائي العظيم التقط نجيب محفوظ في “بداية ونهاية” شخصية الملازم “حسنين”، الشقيق الأصغر في أسرة فقدت عائلها فجأة، وتدهورت أحوالها إلى حدود الفقر المدقع .

توافرت في شخصيته قوة الدراما، فهو تحت ضغط الحاجة والشعور بالحرمان حاول أن يجد خلاصه الفردي، لكن عبء عائلته حاصرهُ حتى اضطر في النهاية إلى الانتحار، عندما وجد عالمه كله ينتهي .

عبد الله السنّاوي
<strong>عبد الله السنّاوي<strong>

من الناحية التاريخية أهمية الرواية في توقيتها ــ حيث نشرت لأول مرة عام (1949) ــ والحرب تضع أوزارها، وكان “محفوظ” قد شرع فى كتابتها قبل أن تدخل القوات المصرية فلسطين .

لم تكن السياسة من شواغل عائلة “حسنين”، فقد استغرقتها أزماتها “فلم تترك نصيباً للوطنية” .

“إن الأوطان تحيا بدم الأبطال”.. قال لأمه المجزوعة من موت ضحايا المظاهرات من الطلبة، لكنه توقف عن حديثه الحماسي برمقة عين .

التقط “محفوظ” من حركة الحوادث وتداعياتها مادته التي جسدها فى بشر من لحم ودم ودموع ونبوءات .

“ثم جدت أحداث فتكونت الجبهة الوطنية، وشُرع فى المفاوضات، وانتهت المفاوضات إلى الاتفاق، وسرى في البلد ارتياح” .

كانت تلك مقدمات دخول “حسنين” الكلية الحربية.لم يكن ممكناً من قبل لمن هم فى وضعه الاجتماعي أن يخطر ببالهم دخولها .

رغم كل الانتقادات التي وجهت لاتفاقية (1936)، التي وقعها زعيم “الوفد” مصطفى النحاس، وألغاها بنفسه عام (1951)، إلا أنها سمحت لأولاد المصريين من الطبقة الوسطى الالتحاق بالكلية الحربية .

“أرأيت أن الأرواح التي زُهقت لم تذهب سُدى” .

قال حسنين لوالدته: “هيهات أن يعوض شيء عن هلاك روح شابة” .

“لقد عشت يا أماه نصف قرن في ظل الاحتلال، فندع الله أن يمد لنا في عمرك نصف قرن آخر في كنف الاستقلال”.

.”احتلال، استقلال، لا أدري أي فرق بينهما، خير لنا أن ندعو الله أن يكشف لنا الغمة، وأن يبدلنا من عسرناً يسراً ” .

“لو لم يكن الاحتلال لما تُركت أسرتنا بعد موت أبي بلا معين” .

كادت أوضاعه المادية المزرية تحول تماماً دون ذلك الالتحاق، لولا وساطة صديق موسر لوالده ومساعدة شقيقه الأكبر “حسن” فى دفع أول دفعة من المصروفات المطلوبة، فهو لم يفتقد رغم سجله الإجرامي عطفه على عائلته التي تركها خلفه تعاني العوز المفرط .

“عشرون جنيها؟.. إن جيشنا كله لا يساوي هذا المبلغ!.. هل تنوى الالتحاق بمدرسة اللواءات؟”

تلك النظرة السلبية لها جذور فى التاريخين القديم والحديث معاً .

قديماً كاد يمنع على الفلاحين المصريين الالتحاق بخدمة الجيش .

وحديثاً لم يتم دمجهم مرة واحدة وتعرضوا للتهميش والتمييز .

كانت تلك الأوضاع على رأس الأسباب الجوهرية للثورة العرابية، أولى ثورات العصر الحديث، التي يطلق عليها في بعض الأدبيات “ثورة الفلاحين .

عندما شرع “محمد علي” في تأسيس الدولة الحديثة عام (1805)، استند على ركيزتين أساسيتين:

أولاهما ــ بناء جيش قوي يستطيع أن يلبي طموحه في تثبيت حكمه، والتطلع إلى خارج الحدود منازعاً الخلافة العثمانية وربما وراثتها .

وثانيهما ــ إرسال بعثات تعليمية تتلقى العلوم الحديثة من الجامعات الأوروبية، حتى يمكن التطلع إلى تحسين جوهري فى أداء المهام العامة .

لم تحظ الركيزة الأولى ــ في وقتها وظروفها ــ بأية شعبية بالنظر إلى أعمال السخرة، التي رافقت تجنيد أولاد الفلاحين، حيث أرسلوا في بعض الأحوال إلى مناطق بعيدة كالمكسيك دون أمل في عودة .

بفضل الثورة العرابية أخذت الجندية معنى مختلفاً، وطني ومقاوم، بغض النظر عن الأخطاء التى ارتكبت .

عندما انكسر عرابي، واحتُلت مصر، لم يكن ممكناً لعقود طويلة الحديث عن أية قوة عسكرية مصرية .

في كل الثورات والانتفاضات الحديثة تصدر الجيش مشاهدها بصورة أو أخرى باستثناء ثورة (1919)، لأن مصر كانت تُحكم بحراب الاحتلال البريطاني .

كانت اتفاقية (1936) نقطة تحول فى الحياة العامة اكتسبت زخمها في ميادين القتال بفلسطين لا بمنطق نصوصها .

هل حقا ما يقال عن احتمال سقوط الوزارة؟” .

وكان رد الملازم حسنين: “غير مسموح للضابط بالاشتغال بالسياسة.. و”لا شأن للجيش مع المظاهرات” .لم يكن الشأن السياسي العام من شواغل الملازم حسنين، وهو نفسه غير مستعد للتضحية من أجل أية قضية .غير أن المؤلف المُلهم أجرى على لسانه عبارة حكمت المستقبل البعيد في يناير (2011) :”إذا قامت ثورة فلا بد من تدخل الجيش” .

لم يكن الملازم حسنين شريراً بالفطرة ولا بطلاً بالتصرف، هو ابن ظروفه وضحيتها .كانت حرب فلسطين زلزالاً أعاد الجيش وسط حممه اكتشاف هويته الوطنية وعقيدته القتالية .تحت وهج النيران فى فلسطين ولد جيل جديد من الضباط الوطنيين وتوارت إلى حد كبير صورة الملازم حسنين .

كانت تلك آخر رواية كتبها أديب العربية الأكبر قبل ثورة “يوليو”، وبدت بأبطالها وحوادثها أقرب إلى نبوءة تستمد من عنوانها: “بداية ونهاية” .قبل نكسة يونيو (1967) حذر “محفوظ” من خطر محدق يوشك أن يقع بأثر أخطاء وتجاوزات من داخل النظام .

فى عام (1966) نشر روايته “ثرثرة فوق النيل”.

“ما معنى هذه الرحلة؟”.”المهم الرحلة لا المعنى ! “.السؤال القلق، الذى جرى على لسان “أنيس زكي”، الذاهل ليلاً ونهاراً بأثر المخدرات،

والجواب بعبث من سائق السيارة المسرعة على الطريق قبل أن ترتطم بمجهول وترديه صريعاً بغير ذنب، هما صلب الرواية بما حملته من إشارات تنبئ وتحذر .

معانٍ نقدية مقاربة تضمنتها رواية “ميرامار”، التي نشرت فى عام النكسة .

المثير أن الروايتين دُرستا في “منظمة الشباب الاشتراكى”، وجرت حوارات مفتوحة حولهما فى سنوات ما بعد “يونيو” .رغم ما هو معروف عن أديب العربية الأكبر من انتقادات وتحفظات على تجربة “يوليو”، فإنه لم يكن معادياً لها .

قرب نهاية حياته الطويلة كتب حلماً من ضمن “أحلام فترة النقاهة” ــ آخر أعماله الروائية .كانت الأحلام تخطر له في منامه، يحفظها ويمليها، وهو لا يكاد يستطيع أن يحرك يده، أو يرى جيداً ما حوله :”وجدتني مع الرئيس عبدالناصر في حديقة صغيرة وهو يقول :لعلك تتساءل لماذا قلّت مقابلاتنا، فأجبته بالإيجاب .

فقال: كلما شاورتك في أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كلياً وجزئياً، فخفت أن تتأثر صداقتي لك بهذا الموقف .

فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتي لك مهما اختلفنا” .

لم يكن “نجيب” صديقاً لـعبدالناصر، غير أنه في لحظة مكاشفة أخيرة اعتبره صديقاً لا يؤثر على محبته اختلاف رأي .

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

لروحك السلام يا آخر العباقرة

نشرت

في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غادة السمّان:

ماذا يقال في رحيلك وقد قلتَ كلّ شيء.

يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.

غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!

هذا المقال أوائل البدايات في الصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت

تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.

كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.

ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع

شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.

لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.

لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!

كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.

ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..

‎ زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.

‎مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:

‎” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.

هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.

لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!

ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.

بعيداً وباستحقاقٍ جدير بالاعتراف يرتقي إلى مكانة المفكّر العبقريّ، والناقد الأشدّ لذعاً بمختلف ميادين الحياة.

هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..

إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.

من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!

إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.

وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!

ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.

حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..

أكمل القراءة

جلـ ... منار

دفاعا عن ماجدة الرومي

ردّاً على مقال: حين يعلو الجهل ويخفت الإدراك الموسيقي

نشرت

في

جمال فياض

في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.

إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندما يُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.

أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!

إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.

أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.

وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.

نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.

السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…

بكل مودة الزمالة…

شكراً ، لمن كتب بالسرّ، ومن نشر في العلن

أكمل القراءة

جلـ ... منار

النصر والهزيمة في حرب الـ (12) يوما!

نشرت

في

عبد الله السنّاوي

كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.

فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.

عبد الله السنّاوي

بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.

ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.

من الذي انتصر حقا؟!

أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.

إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.

القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.

لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.

“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.

كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.

إنهما حرب واحدة.

هكذا بكل وضوح.

أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.

لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.

هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.

لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.

“إنها حثالة”!

لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.

حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.

التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.

يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.

بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.

قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.

ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.

بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.

إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.

بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.

تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.

كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.

أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.

في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.

فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.

فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.

المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.

بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.

بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.

وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.

أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.

نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.

كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.

وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.

الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.

أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.

بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.

الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.

والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.

الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.

هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.

لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.

أكمل القراءة

صن نار